تونس في قلب إعصار"الربيع العربي"

السنة الثانية عشر ـ العدد 134  ـ ( صفر ـ ربيع الأول  1434  هـ ) كانون الثاني 2013 م)

بقلم: توفيق المديني

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

تشهد الساحة التونسية انقساماً سياسياً حاداً بعد مرور سنة على انتخاب المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر 2011، لاسيما بين ما هو علماني وإسلامي، وبين ما هو موال للترويكا الحاكمة، و معارض لها، يصر على أن المجلس التأسيسي بات فاقداً للشرعية. وفي ظل البحث عن شرعية توافقية، وبلورة "خريطة الطريق" للمرحلة الانتقالية كما تطالب بذلك المعارضة الديمقراطية، تصاعدت وتيرة العنف السياسي في المجتمع التونسي، في ظل تراجع حقوق الإنسان على يد الحكومة الحالية، والتشكيك في التزام هذه الحكومة بالإصلاح الديمقراطي المطلوب.. إضافة إلى التهديد المتصاعد الذي تمارسه الجماعات السلفية المتشددة، لاسيما من قبل جماعة "أنصار الشريعة"، المقربة من "القاعدة"، التي هاجمت حكومة النهضة الإسلامية،متهمة إياها بـ"العمالة للغرب".

وفي ظل هذا الانقسام السياسي الحاد، نجح الاتحاد العام التونسي للشغل  في احتلال الفضاء العام وتصدره مشهد الحياة العامة التونسية في الأسابيع الأخيرة، تظاهراً وإضرابات عامة متنقلة واحتجاجات مطلبية، لاسيما بعد قيادته انتفاضة سليانة، وإعلانه الإضراب الوطني العام يوم 13 كانون الأول/ ديسمبر 2012، وصولاً إلى طرحه مبادرات سياسية للخروج من الأزمة التي تعيشها البلاد، في ظلّ العملية الانتقالية الغامضة من حيث المجريات والآفاق أو المهل الزمنية.

انتفاضة سليانة... تبشر بثورة جديدة في تونس

بات من المؤكد أن قطار ربيع الثورات العربية الذي انطلق من تونس، يحتاج إلى إعادة التفكير المتميز بالعقل والعلم، لأن متطلبات الانطلاق تختلف عن مقومات الانجاز والإنجاح في تحقيق أهداف الثورة التونسية، التي أصبحت بمنزلة الاختبار الحقيقي لطبيعة حركات الإسلام السياسي التي وصلت إلى السلطة في كل من تونس، ومصر، وليبيا، والمغرب، ودورها المتعاظم، ولبوسها الحلة القديمة – الجديدة المرتكزة على إرث جماعة "الإخوان المسلمين". فالحكومة الإسلامية برئاسة السيد حمادي الجبالي، حافظت على التوجه الاقتصادي النيو/ليبرالي الذي كان يسير فيه النظام السابق، أي ذلك التوجه الواضح نحو الإبقاء على ارتهان الاقتصاد التونسي للنظام المالي العالمي لجهة العلاقة بمؤسسات كصندوق النقد والبنك الدوليين، ولجهة العلاقة بأمريكا التي وصفها الغنوشي بعد فوزه الانتخابي بـ"الصديق التاريخي".

وكانت حركة "النهضة" تعهدت في برنامجها الانتخابي تحقيق معدل نمو سنوي يناهز 7% خلال الفترة ما بين العامي 2012 و2016، وهو ما من شأنه بحسب "النهضة" أن يرفع الدخل السنوي للفرد بتونس من 6300 دينار (4491 دولاراً) في العام 2011 إلى عشرة آلاف دينار (7129 دولاراً) في العام 2016. ولكن ها هي بعد سنة من حكمها، يتساءل التونسيون على اختلاف مرجعياتهم الفكرية والسياسية "كيف ستحقق النهضة وعودها بالتشغيل ورفع الأجور؟"، هل من خلال التمويل الأمريكي أو"المال الخليجي".

لقد اصطدمت الحكومة الحالية التي يرأسها حمادي الجبالي أمين عام حركة النهضة الاسلامية بالتحديات الاجتماعية والاقتصادية التي كانت السبب الرئيسي في اندلاع الثورة التونسية كارتفاع معدلات البطالة، والتفاوت الصارخ في مجال التمنية بين مختلف مناطق البلاد٬ والتهريب والفساد، والتي لا تزال من دون حل(..) ويمكن أن تؤدي إلى تأجج الأحداث من جديد.ولم تتمكن حتى الآن حكومة الجبالي من وضع حد للفساد، وأحداث العنف المحلية المرتبطة بإعادة توزيع السلطة، أو تكاثر شبكات التهريب التي تسهم في تفاقم مشكلة التضخم.

هذا ما عبرت عنه انتفاضة سيدي بوزيد في سبتمبر 2012، و التي أفضت إلى تغيير والي المنطقة السيد محمد نجيب المنصوري (عضو في حركة النهضة الإسلامية)، والذي تعامل مع الانتفاضة بعقلية وأسلوب أمنيين. وها هي سليانة التي تقع في الشمال الغربي لتونس، شهدت يوم الثلاثاء 23تشرين الثاني/ نوفمبر 2012إضراباً عاماً دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر نقابة عمال في تونس) ومواجهات بين آلاف من المتظاهرين ورجال الأمن أدت إلى إصابة حوالي 300 شخص، إذ طالب سكان هذه الولاية الفقيرة بإقالة مسؤولين محليين، من بينهم الوالي القريب من السيد حمادي الجبالي(ابن أخته)، والمنتمي إلى حركة النهضة الإسلامية، وتحقيق التنمية الاقتصادية، وبالإفراج عن 14 شاباً اعتقلوا خلال أعمال عنف شهدتها سليانة يوم 26 نيسان /أبريل 2011. وكان مكتب اتحاد الشغل في سليانة اتهم في بيان أصدره في 23 نوفمبر 2012الوالي بـ "تعطيل مسار التنمية بالجهة التي عرفت ركوداً على جميع المستويات".

وبحسب إحصائيات رسمية ارتفعت نسب البطالة في تونس إلى نحو 19% سنة 2011 مقابل حوالي 14% سنة 2010 وبلغ عدد العاطلين في البلاد خلال 2011 حوالي 750 ألفا بينهم نحو 250 ألفا من خريجي الجامعات ومؤسسات التعليم العالي. وتبلغ نسبة الفقراء نحو 25% من إجمالي سكان البلاد التي يقطنها أكثر من 10 ملايين ساكن.

وفي ظل انتهاج حكومة الترويكا بقيادة حركة النهضة سياسة قائمة على المحاصصات الحزبية، ووضع اليد على مفاصل الإدارة و أجهزة التونسية، و عدم الفصل بين أجهزة الدولة و الأحزاب السياسية حفاظاً على حيادية الإدارة، تعيد هذه الحكومة إعادة انتهاج ممارسات النظام الديكتاتوري السابق، الأمر الذي يدفع بالفئات الشعبية والشباب العاطلين عن العمل يفكرون بشكل متزايد بتسوية مشاكلهم بأنفسهم وعلى طريقتهم.

حكومة الجبالي الحالية حكومة فاشلة، يهيمن عليها الكسل البيروقراطي، و العقلية الحزبية النهضاوية الضيقة، المتناقضة مع نهج تغليب المصلحة الوطنية، و لهذا لا غرابة أن تنتهج أسلوب العنف الأعمى في مواجهة الاعتصامات والاحتجاجات الشعبية والتشكيك السياسي في شرعيتها . فتونس الآن في حاجة إلى حكومة إنقاذ وطني قادرة على استعادة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، وعلى معالجة المطالب الشعبية بحكمة وروية.

وهذا ما أكده الرئيس التونسي المنصف المرزوقي في خطاب توجه به إلى التونسيين عبر التلفزيون الرسمي، حين قال إن "مصلحة تونس العليا اليوم تقتضي تشكيل حكومة مصغرة فاعلة تجمع الكفاءات". وشدّد الرئيس التونسي على ضرورة أن تتم التعيينات في الحكومة المصغرة على أساس الكفاءة وليس على أي قاعدة أخرى مثل المحاصصة الحزبية أو الولاء السياسي.ولا يملك الرئيس التونسي بموجب النظام المؤقت للسلطة (الإعلان الدستوري( صلاحية تعديل الحكومة الذي هو من اختصاص رئيس الوزراء حمادي الجبالي أمين عام حزب النهضة الإسلامي الذي يملك اكبر عدد من النواب في المجلس التأسيسي.

أمام الضغط الشعبي، تمت إقالة والي سليانة أحمد الزين المحجوبي وتعيين غسان  الكسراوي المعتمد الأول لتأمين سير شوؤن الجهة. غير أن انتفاضة سليانة، وانتفاضة سيدي بو زيد من قبلها، وأحداث مدينة تطاوين المؤلمة وكذلك قابس، تكشف لنا مدى عمق الاستياء الشعبي  في تونس، الأمر الذي يقودنا إلى القول أن هناك أزمة شرعية للحكومة  الحالية التي تقود هذه المرحلة الانتقالية من عمر الثورة التونسية.

كما تكشف انتفاضة سليانة عن المأزق الذي وقعت فيه الطبقة السياسية الحاكمة متمثلة بالترويكا الحاكمة، وفي القلب منها حركة النهضة، الطرف السياسي المهيمن و الفاعل في الحكومة، من جراء غياب الحوار الديمقراطي بين السلطة و المعارضة بحثاً عن التوافقات السياسية بشأن العديد من المسائل التي لا تزال تشكل محور جدل ساخن في تونس، ومنها: 

1ـ الجدل حول الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وخاصة الاتهامات الموجهة للهيئة السابقة وتطارح أسماء مرشحين لرئاسة الهيئة الجديدة الدائمة واستبعاد التجمعيين من عضويتها.2ـ غياب التوافق حول خريطة طريق للمواعيد الانتخابية القادمة والتي ستفضي الى الوضع الدائم والمستقر.3ـ حالة التوتر بين أكثر من نقابة والحكومة حول مطالب البعض منها منطقي والبعض الاخر تعجيزي وصعب التحقق يعود إلى أكثر من عقدين من الزمن كخفض سن التقاعد 4.ـ التباين الكبير في المواقف حول الأداء الحكومي وما يطرحه من فرضيات للتعديل الحكومي وإمكانية توسيع الفريق الحكومي ليشمل أطرافا أخرى غير الترويكا.5ـ طرح مشروع التحصين السياسي للثورة وعودة أوساط قريبة من السلطة للحديث عن المؤامرة التي تستهدف كيان الدولة والانقلاب على الشرعيّة.

الطريقة التي عالجت بها الحكومة المطالب الشعبية لأهالي ولاية سليانة، تكشف أيضاً أن الإسلام السياسي الأمريكي الذي تمثلة حركة النهضة لا يتوافق مع الديمقراطية. و تكمن خطورة هذا الإسلام السياسي الأمريكي في الإخفاق الاقتصادي القائم،و الذي يقود يوميا إلى تصعيد التوترات الاجتماعية وحدوث اضطرابات جديدة، لا سيما في الولايات التونسية الفقيرة في الوسط و الشمال الغربي، والجنوب، أولاً. وفي إفساحه في المجال للحركات السلفية الجهادية لإجهاض الحراك الديمقراطي والانقلاب عليه في تونس، ثانياً.

فالإسلام السياسي الأمريكي  ليس متوافقاً مع أهداف الثورة التونسية . و التوجه الإسلامي الإخواني لحركة النهضة يمثل في حد ذاته فكراً ليس متماثلاًمع الديمقراطية والحرية.على نقيض  من ذلك، فإن الأحزاب المستلهمة من القيم الإسلامية الإصلاحية،  والتقاليد الوطنية التونسية ، و الأحزاب اليسارية، و الديمقراطية، تمتلك أكبر فرصة في الوقت الحالي للتطور لكي تصبح على المدى الطويل أحزاباً شعبية قادرة على الحصول على أغلبيات في الانتخابات المقبلة، وقادرة أيضا على تحقيق أهداف الثورة التونسية .

و بات التونسيون، ومن بعدهم المصريون، على قناعة بأن العلاقة بين التوجه الإسلامي الإخواني في كل من تونس و مصر والمعتقدات الديمقراطية، بين الإسلام السياسي الأمريكي والديمقراطية، غير  ممكنة.فالأمر الهام بالنسبة للثورة التونسية، هو بناء الديمقراطية الفعلية،  ودولة القانون،  والمجتمع التعددي، والتسامح الديني،وكذلك بالحفاظ على السلام الداخلي والخارجي، وحل المشاكل الاقتصادية و الاجتماعية، و انتهاج خيارات اقتصادية اجتماعية تقطع مع نهج التبعية . هذه هي المقاييس الحقيقية التي يطالب بها المجتمع المدني والمعارضة الديمقراطية، في تونس.

2-الإضراب العام في مواجهة سياسة النهضة

في الوقت الذي كان فيه النقابيون يتوافدون على ساحة محمد علي، المقر الرئيسي للاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر نقابة عمالية في تونس) للتوجه إلى قبر الزعيم النقابي الراحل فرحاد حشاد، المؤسس للاتحاد عام 1946، والذي اغتالته السلطات الفرنسية في 5ديسمبر عام 1952، لقراءة الفاتحة على روحه في الذكرى الستين لاستشهاده،  وكان عددهم قليلا فوجئوا بالهجوم من قبل عناصر من ما يسمى ب" رابطات حماية الثورة " - وهي مليشيات شكلتها حركة النهضة الإسلامية الحاكمة في تونس-على مقر"الاتحاد التونسي العام للشغل" في العاصمة، وحطموا نوافذه بالحجارة واعتدوا على أعضائه من بينهم قيادات في المكتب التنفيذي، ما أدى إلى سقوط 20 جريحاً، قبل أن تتدخل الشرطة للفصل بين الطرفين.

و في الفترة الأخيرة تورطت "رابطات حماية الثورة "المقربة من حركة النهضة الإسلامية في العنف والهجوم على تكوينات المجتمع المدني من أحزاب سياسية و نقابات، بسبب من مناهضتها  لسياسات  الحكومة . وفي هذا السياق اتهم أنصار "حركة النهضة" الإسلامية "الاتحاد العام التونسي للشغل " بالتحريض على الاحتجاجات المطلبية المتنامية ضد الحكومة التي يرأسها السيد حمادي الجبالي أمين عام حركة النهضة. وهتف المهاجمون بشعارات تصف النقابيين باللصوص، وتتهمهم بأنهم يريدون تدمير البلاد، مطالبة بمحاسبتهم و"تحصين الثورة".

وفي المقابل، ردّ المئات من أعضاء الاتحاد والمتعاطفين معه بإطلاق شعارات "يا حشاد، يا حشاد، النهضة باعت البلاد"، و"يا نهضاوي يا حقير، يا عدو الجماهير"، كما دعوا إلى الإضراب العام وإسقاط الحكومة.وتجمع نحو ألفين من أعضاء الاتحاد بعد الاشتباكات، أمام مقر الحكومة، في تظاهرة مناهضة لرئيس الوزراء حمادي الجبالي.

وطالب الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة "النهضة" الإسلامية الطرف الرئيس في الائتلاف الثلاثي الحاكم في تونس بتشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في الأحداث الدامية التي وقعت في تونس العاصمة، يوم الثلاثاء 4 كانون الأول/ديسمبر 2012، ومحاسبة المذنبين.ووصف الغنوشي، خلال مؤتمر صحفي عقده يوم الأربعاء5كانون الأول/ديسمبر 2012، الأحداث التي شهدتها ساحة محمد علي في تونس العاصمة في ذكرى اغتيال الشهيد فرحات حشاد بأنها مؤسفة للغاية، باعتبار أن العقد الاجتماعي الذي أمضته الحكومة مع الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمة الأعراف حول الزيادة في الأجور في القطاعين العمومي والخاص قد صحبته، كما قال، أعمال عنف مارستها ميليشيات منظمة تابعة للاتحاد العمالي تجاه من جاءوا للاحتفال مع النقابيين بذكرى استشهاد حشاد.

تأتي هذه الأزمة الجديدة  بين الاتحاد العام التونسي للشغل و حركة النهضة الإسلامية، بعد ثلاثة أيام من نهاية أسبوع من المواجهات الدامية، بين قوات الأمن ومتظاهرين من ولاية سليانة الواقعة على بعد 120 كيلومتر جنوب غرب تونس، أعقبت إضراباً عاماً في الولاية، دعا له "الاتحاد"، حيث اتهمت حركة النهضة،  الاتحاد بما تسميه "التدخل في الشأن السياسي، وتأجيج الاحتجاجات الاجتماعية في البلاد"، التي تشهد بانتظام تظاهرات عنيفة. وكان "الاتحاد" سعى، في منتصف تشرين الأول / أكتوبر 2012، إلى جمع كافة القوى السياسية في حوار وطني، للتباحث بشأن توافق حول الدستور الجديد الذي تتعثر صياغته، وأجندة نهاية المرحلة الانتقالية، لكن "النهضة" وشريكه الأصغر في الحكومة، "حزب المؤتمر من أجل الجمهورية"، قاطعا اللقاء، ما أدى إلى فشله. وتصاعد التوتر منذ أسابيع بين المركزية النقابية والحكومة، في الوقت الذي تكثفت فيه الاحتجاجات الاجتماعية، واستفحلت فيه حدة الأزمة السياسية.

في ضوء هذه الحرب الصريحة بين حركة النهضة الإسلامية  ومعها الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر منظمة عمّالية في البلاد، قرر الاتحاد في اجتماع مكتبه التنفيذي ليلة الخميس 6كانون الأول/ديسمبر 2012، القيام بإضراب وطني عام في 13 كانون الأول/ديسمبر 2012، ردّاً على الاعتداء الذي تعرض له مقره المركزي في العاصمة من قبل "رابطات حماية الثورة" المقربة من الحكومة، وأيضاً رداً على الاتهامات التي وجهتها له قيادات إسلامية بأنه يسعى إلى بث الفوضى في البلاد وإسقاط الحكومة.وجاء بيان الإضراب العام في نقطتين رئيسيتين، أولهما رفع شكوى إلى منظمة العمل الدولية لاتخاذ موقف من الاعتداءات المتكررة على اتحاد الشغل، والمطالبة بحل رابطات ولجان حماية الثورة التي "تأتمر بأوامر حركة النهضة وتتمتع بدعم سياسي منها". مع العلم أن الإسلاميين لا يفوتون فرصة في الدفاع عن هذه الرابطات معتبرين أنها إفراز من إفرازات الثورة.

وصعّدت الحكومة بدورها من حدة خطابها، وواصل وزراؤها والقياديون الإسلاميون توجيه الاتهامات والانتقادات إلى المعارضة واتحاد الشغل. وبدلا من أن يتسم موقف الشيخ راشد الغنوشي بالحكمة و الرزانة، زاد في رفع سقف حدة التوتر السياسي و الاجتماعي في البلاد، عندما اعتبر في ندوة صحافية، أن قيادات الاتحادالعام التونسي للشغل، تخدم أجندات أحزاب اليسار "الفاشلة في الانتخابات"، وقال إنها تراهن على إسقاط الحكومة التي يرأسها الأمين العام لـ حركة النهضة الإسلامية السيد حمادي الجبالي.وحمّل الغنوشي مسؤولية ما حصل من أحداث عنف خلال الأيام الماضية في سليانة، إلى الاتحاد للشغل، قائلاً "إن الاتحاد منظمة راديكالية يسارية متطرفة تدفع بحركة النهضة في مواجهات ليست في مصلحة البلاد". وفي السياق نفسه، استغرب زعيم الإسلاميين في تونس دعوة اتحاد الشغل إلى إضرابات عامة في مختلف محافظات البلاد بالتزامن مع توقيعه اتفاق الزيادة في الأجور مع الحكومة، مفسّراً بأن ذلك يؤكد أن النقابة الأولى في البلاد أصبحت تمارس السياسة وتدفع البلاد نحو الفوضى وإفشال المسار الديموقراطي.

عندما استلمت حركة النهضة الإسلامية  السلطة،لم تدرك أن الشعب التونسي الذي صنع ثورته، وأسقط النظام الديكتاتوري السابق، يحتاج إلى بناء دولة ديمقراطية تعددية، وخلق مجتمع جديد، وانتهاج خيار اقتصادي و اجتماعي جديد يجسد القطيعة مع الخيارات الاقتصادية والاجتماعية المنحرفة في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، و التي أدت في الواقع إلى إثراء  أقلية من العائلات المرتبطة بالسلطة، و كبار رجال الأعمال على حساب إفقار معظم طبقات الشعب التونسي، بما فيها الطبقة المتوسطة، التي تعتبر أكبر طبقة اجتماعية موجود ة في تونس. ليس لحركة النهضة الإسلامية نظرية للاقتصاد، بل هي منساقة في نهج الليبرالية الجديدة التي سقطت في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي غيرها من الدول الرأسمالية الغربية  عقب وقوع الأزمة المالية و الاقتصادية العالمية عام 2008، ولم تقم بمراجعة نقدية للنموذج الرأسمالي الطفيلي الذي كان سائداً في تونس، حيث وصل إلى مأزقه المحتوم.

ولهذا السبب عجزت حركة النهضة عن مواجهة التحديات الاقتصادية و الاجتماعية  التي تعيشها تونس في زمن ما بعد الثورة، لأنها لا تعرف حاجات الشعب التونسي   الاقتصادية والمعيشية فلم تهتم بها,وأخفقت أيضاً في بلورة خطة حقيقية للتنمية المستدامة تقطع مع نهج التبعية، فحافظت على عقد الصفقات المشبوهة مع الليبرالية الجديدة المتشكلة من نهابي مرحلة بن علي المخلوع،و تركت البلد للأغنياء الذين سبق أن مارسوا جميع أنواع النهب في عهدالنظام السابق،واعتمدت على الاستثمارات الأجنبية وعلى السياحة، وعلى ما يرد من دول أجنبية وشركات خاصة دون أن تقدم برنامجاً لعمل الإنتاج الزراعي والصناعي، أو حتى الخدمي.

وبما أن حركة النهضة الإسلامية لم تكن قوة ثورية في تاريخها، ولم تشارك في صنع الثورة، بل ركبت موجتها، وقطفت ثمارها فقط، فإنها عجزت عن تقديم مشروع مجتمعي جديد يلبي التطلعات و الانتظارات للشعب التونسي، و يحقق أهداف الثورة، لذلك حافظت على الأساليب القديمة في القمع،و بدأت تقوض القاسم المشترك والعمومي للشعب التونسي ألا وهو الإسلام المستنيرالإصلاحي و المتسامح، لتطرح من خلال تحالفها مع الجماعات السلفية، إسلاماً وهابياً مستوردأ من الخليج و بتمويل من بعض دوله،وهذا ما جعل قوى المجتمع المدني التونسي تستنفر للمقاومة وتواجه هذا المسعى الديكتاتوري لحركة النهضة و حلفائها من السلفيين .

بعد سنة من ممارستها للسلطة، لاتزال حركة النهضة الإسلامية التي استغلت الديمقراطية لكي تعبد لها طريق الوصول إلى السلطة، تراوغ في  إيمانها  بمبادئ الديموقراطية، وترتكب الأخطاء عينها التي ارتكبتها الأنظمة الديكتاتورية في كل من تونس و مصر.فلا تزال حركة النهضة الإسلامية غير ملتزمة ببناء الدولة الديمقراطية التعددية، التي تؤكد على حرية المعتقد، وحرية التعبير، و التظاهر، و التنظيم،  وقبول الرأي الآخر، ووجود قضاء مستقل ومحايد ونزيه، وإقرار الفصل بين السلطات لضمان الضوابط والموازين داخل الحكومة، وصياغة دستور ديمقراطي يتضمن  مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبعض مبادئ الديموقراطية مثل القضاء المستقل والانتخابات وغيرها، كمرجعية كونية.

ومنذ انخراطه في الثورة التونسية، عمل الاتحاد العام التونسي للشغل على محو الحقبة السوداء التي عاشها في ظل حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، واستعادة عافيته، وتوسيع قاعدته بوصفه القوة الوازنة الرئيسة في البلاد التي استقطبت حوله ليس المنظمات الأهلية فحسب، و إنما أيضاً غالبية الأحزاب الصغيرة .فمن الناحية التنظيمية يمتلك الاتحاد العام التونسي للشغل فروعاً في كل محافظات البلاد،و لديه قدرات تعبوية كبيرة، وهذا ما جعله يلعب دور المحرّك للثورة التونسية . ونظراً لهذا الثقل الجماهيري الذي يتمتع به الاتحاد العام التونسي للشغل في تونس حيث يبلغ عدد منتسبيه خمسمئة ألف عضواً، العديد منهم كانوا منتسبين إلى "حزب التجمع الدستوري الديمقراطي "المنحل،فإن هذا الاتحاد الذي تتعايش في داخله اتجاهات سياسية متعددة، أسهم الاتحاد في تشكيل الحكومة الانتقالية الأولى، و أسهم أيضاً في إسقاط حكومة الغنوشي الثانية، وباتت كلمته مؤثّرة في تسيير دفّة السياسة في البلد.

وبماأن تونس تعيش حاليا مخاض ثورة ديمقراطية عميقة، وهي بصدد بناء نظامها الديمقراطي الجديد، الذي قوامه بناء دولة الحق و القانون، وإقامة تعددية سياسية حقيقية، و إقرار مبدأ التداول السلمي للسلطة، فمن الواضح أنه بعد إجراء الانتخابات الأخيرة لم تتبلور "معارضة" سياسية جاهزة، بجسمها الحزبي ومشروعها الوطني الديمقراطي، لتعطيل ما يجب تعطيله، انسجاما مع مبدأ الديموقراطية الذي لم تعهده تونس ما قبل الثورة، وللتصدّي للظاهرةالأصولية الإخوانية.لهذا، أصبح الاتحاد العام التونسي للشغل القوة الموازنة للوقوف في وجه حركة النهضة .

قد يكون مردّ ذلك الى "عنف" النظام السابق الذي شلّ التنظيمات اليسارية المعارضة لسنوات طويلة والى برجوازية بعضها وتعلّقه بالخطابات النخبوية، وذلك مقابل حركة النهضة الإسلامية التي حافظت على كينونتها، فكانت الأكثر جهوزية بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي، لتفرض نفسها انتخابيا بخطابها العاطفي، وتعتلي عرش السلطة. هذا ما يجعل المشهد السياسي في تونس اليوم، منقوصاً لجهة التوازن السياسي بين سلطة تحكم وقوة منافسة تعترض، إلا أن من يملأ هذا النقص في المرحلة الراهنة هو الاتحاد العام التونسي للشغل.. الأقدم في لعبة الحقوق والمطالب، وظهر بصفته رأس الحربة في المواجهة مع حركة النهضة الإسلامية، استناداً إلى تاريخه النضالي بوصفه قوة نقابية تلعب دور الحزب المعارض في المحطات الرئيسة التي احتدم فيها الصراع السياسي بين السلطة و المعارضة في تونس، منذ عهد الاستقلال وليومنا هذا.

وكان مصير حسم الصراع بين أجنحة النظام في العهد السابق، مرهوناً بموقف الاتحاد العام التونسي للشغل في خريطة الصراع السياسي، والتحالفات التي يفرزها.ولأن سياق مراحل تطور الصراع النقابي و السياسي في تاريخ تونس الحديث، أثبت حقيقة لا جدال فيها، بأن الاتحاد باعتباره منظمة نقابية جماهيرية، غالباً ما يقوم بدور الحزب السياسي المعارض في ظل ركود و عدم فاعلية القوى السياسية المعارضة.وظل الاتحاد العام التونسي للشغل السلاح الاستراتيجي الفعال لأية قوة سياسية استخدمته أو تستخدمه للوصول إلى السلطة.

و تُعَّدُ الدعوة إلى الإضراب الوطني العام من جانب الاتحاد العام التونسي للشغل يوم 13ديسمبر الجاري،  الثالثة في تاريخه، إذ سبق للاتحاد أن أعلن الإضراب العام مرتين: الأولى في 26 كانون الثاني /جانفي العام 1978، في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، وترافق وقتها مع أحداث دامية، وقمع شديد من السلطات. أما المرة الثانية، فكان إضراباً عاماً لساعتين فقط، يوم 12 كانون الثاني العام /جانفي 2011، قبل يومين فقط من سقوط نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي .فالاتحاد ناضل في سبيل تحقيق الاستقلالية الكاملة للمنظمة النقابية، و ألأسهم بصورة فعالة في صنع الثورة التونسية، حيث جعلت  هذه الثورة من الشعب التونسي كياناً جديداً يحاسب ويطالب ويتظاهر ويسقط أنظمة، ما دامت لديه الحيوية الثورية.

لم يقتصر الصراع الحادّ الذي يخوضه الاتحاد العام التونسي للشغل على الجبهة الاقتصادية و الاجتماعية، بل إنه أصبح طرفاً حقيقياً في الصراع  السياسي ضد التطرف السلفي، و لاسيما بعد استفحاله في تونس، وغض حركة النهضة الطرف عنه. فتقدم الاتحاد العام التونسي للشغل بصوغ مشروعه الخاص لدستور تونس الجديد، إلى المجلس التأسيسي لمناقشته. ومن أبرز النقاط التي نصّ عليها هذا المشروع، التعريف بمقومات الدولة التونسية: "تونس دولة حرة ذات سيادة دينها الاسلام والعربية لغتها والجمهورية نظامها"، وفي ذلك تشديد على شكل النظام السياسي الذي يريده التونسيون . الشعب التونسي يريد نظاما جمهورياً لا برلمانياً، لا بل نظاماً مزدوجاً لا يكون فيه لرئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة صلاحيات مطلقة. كما شدّد الاتحاد على تضمين الدستور التونسي الجديد الحقوق المدنية والحريات الفردية للرجل كما للمرأة. وبالنسبة إلى السلطات التشريعية، أكد الاتحاد على ضرورة انتخاب مجلس الشعب باقتراع حر ومباشر، وكذلك بالنسبة إلى انتخاب رئيس الجمهورية (الفصل 56: يُنتخب رئيس الجمهورية انتخابا عاما وحرا ومباشرا لمدة 4 سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة)، على أن يُمنع تعديل هذا الفصل لعدم تفريغ الدستور من معناه. أما في القضاء، فقد طالب بمحكمة دستورية تراقب دستورية القوانين وبسلطة قضائية مستقلة مكلفة بفض النزاعات.

أمام هذا الرفض الشعبي المتصاعد ضد توجهاتها الأيديولوجية، وسياساتها الاقتصادية و الاجتماعية، و أساليبها القمعية المستعارة من النظام السابق، آن الأوان لحركة النهضة الإسلامية إذا أرادت أن تكون مُكَوِناً أساسياً من مكونات المجتمع  المدني التونسي الحديث، أن تقوم بمراجعة جذرية لبرنامجها.

وعلى حركة النهضة الإسلامية، التي تشهر سلاح امتلاكها الشرعية الانتخابية في وجه خصومها من الأحزاب السياسية المعارضة و النقابات، أن تدرك مسألة في غاية من الأهمية، أن الثورة التونسية مستمرة، و لايجوز تقزيمها أو اختصارها  إلى صناديق الاقتراع، وأن مزاج الشعب التونسي يتغير في كل لحظة، ويشتعل في كل آن، وأن الأكثرية التي تتمتع بها حركة النهضة الإسلامية اليوم، وإن كانت شرعية في السلطة، فهي تصير أقلية في السلطة غداً، وأن الأقلية في الأمس صارت أكثرية في الشارع اليوم؛ والأكثرية في الشارع اليوم تسقط أنظمة وتلغي رؤساء منتخبين. هذا هو جدل الصراع الديمقراطي بين السلطة و المعارضة.

نأمل أن تتعقل قيادات حركة النهضة الإسلامية، و تتمسك بالخيار الديمقراطي، و بالعقل السياسي السليم الذي يؤمن بتطبيق سياسة التوافق في الحكم بين مختلف الأطراف: حكومة الترويكا من جهة و القوى  السياسية و النقابية  المعارضة من جهة أخرى،وحل "رابطات حماية الثورة"، وتحديد خريطة طريق الانتقال الديموقراطي،وموعد الانتخابات المقبلة، وهو مطلب تجمع حوله المعارضة والمجتمع المدني وحتى شركاء "النهضة" في الحكم.  

اعلى الصفحة