`القضية الكردية في تركيا من أتاتورك إلى أردوغان

السنة الحادية عشر ـ العدد133 ـ ( محرم ـ صفر 1433  هـ ) كانون أول ـ 2012 م)

بقلم: خورشيد دلي(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

ما يجري في تركيا اليوم بين حكومة حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان وحزب العمال الكردستاني بزعامة عبد الله أوجلان لا بد أن يذكر المطلع على تاريخ القضية الكردية في تركيا بما جرى بين مصطفى كمال أتاتورك والهيئة الوزارية الكردية التي تشكلت عقب الحرب العالمية الأولى تلك الهيئة التي قدمت مقترحات لحل القضية الكردية وقتها، لعل من أهمها: منح كردستان الاستقلال الذاتي، واتخاذ التدابير الفعالة لتنفيذ هذا الاستقلال.

ومع أن هذه المقترحات وجدت طريقها إلى طاولة المفاوضات بين الحكومة التركية والدول المنتصرة في الحرب حيث تم التوقيع على اتفاقية سيفر عام 1920 التي كانت أول اتفاقية دولية أقرت بإقامة كيان كردي، إذ نصت في بنودها  62- 63- 64 على إقامة دولة كردية، على الرغم من هذا فان الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك نجح في الالتفاف على هذه الحقوق عبر عملية مزدوجة، ففي الداخل توجه إلى الأكراد وخاطبهم باسم الدين والأخوة والوحدة الوطنية إلى أن أقنعهم بإرجاء مطالبهم إلى مرحلة لاحقة طبعا بعد التعهد لهم بتحقيقها حين استتباب الأوضاع في الدولة العثمانية المنهارة، وبعد هذه الموافقة توجه أتاتورك إلى الخارج ونجح في إقناع المجتمعين في مؤتمر لوزان بصرف النظر عن فكرة الاستقلال الكردي وبدلا من ذلك تم إقرار الحقوق الثقافية واللغوية للأكراد من خلال اعتماد صيغة قامت على التأكيد  بأن تركيا هي للشعبين التركي والكردي ويتمتعان بحقوق قومية متساوية كما أعلن عصمت إينونو رفيق درب أتاتورك والذي خلفه في الحكم بعد وفاته حيث أرسله أتاتورك ليمثل تركيا في التفاوض مع دول الحلفاء بشأن اتفاقية لوزان.

اليوم ومع فارق الظروف، ثمة عوامل وأبعاد وأسباب كثيرة تجعل المرء يعتقد بأن ما يجري بين أردوغان وأوجلان لن يختلف كثيرا من حيث النتيجة عن ما جرى بين أتاتورك والهيئة الكردية قبل نحو أقل من قرن مع فارق في أسلوب كل من أتاتورك وأردوغان واختلاف الظروف. نظراً لأن ما قام به أتاتورك بعد اتفاقية لوزان وإلى حين وفاته عام 1938 شكل أسوء مرحلة في تاريخ العلاقة بين تركيا والأكراد، فلم ينقلب أتاتورك على وعوده بشأن الحقوق القومية الكردية فحسب، بل أرتكب سلسلة من المذابح والمجازر ضدهم، وهي جرائم إبادة عرقية بكل معنى الكلمة.

فما إن حصل أتاتورك على دعم الغرب له، حتى بدأ بإعلان إلغاء صيغة الدولة الإسلامية للحكم، وتنصل ليس من اتفاقية سيفر فقط بل حتى من ما جاء في اتفاقية لوزان بخصوص الأكراد وباقي الأقليات مثل العرب والأرمن والأشوريين، وهو ما دفع بالقائد الكردي الشيخ سعيد بيران إلى إعلان الثورة ضد أتاتورك في عام 1925 ولكن الأخير سرعان ما قمعها بشدة وأعدم كبار قادتها بمن فيهم الشيخ سعيد. لكن الثورات الكردية ضد أتاتورك لم تتوقف، فبعد ثورة الشيخ سعيد اندلعت ثورة آغري بقيادة الجنرال إحسان نوري باشا الذي كان ضابطاً في الجيش العثماني ودامت ثورته من عام 1926 إلى غاية عام 1930 إلا أن مصيرها لم يختلف عن الثورة التي سبقتها خاصة بعد حاصرها جيش أتاتورك في المناطق الجبلية وقطع عنها الإمدادات، بعد ذلك اندلعت ثورة ديرسيم التي معظم سكانها من الأكراد العلويين وقد قاد الثورة سيد رضا، واستمرت حتى عام 1938 وفي هذه الثورة استخدم الجيش التركي الطيران الحربي بكثافة، والمفارقة أن ابنة أتاتورك بالتبني صبيحة كوكتشن هي أول من قامت بقصف ديرسيم بالطائرات، وقد أدى الاستخدام التركي المكثف للطيران والدبابات إلى مقتل أكثر من سبعين ألف كردي علوي وتشريد عشرات الآلاف حسب المصادر الكردية، فيما اعترفت تركيا بمقتل 14 ألف فقط، وحديثاً أضطر أردوغان إلى تقديم الاعتذار عن ما جرى بعد إثارة الموضوع في الإعلام والصحافة. وبعد إخماد ثورة درسيم تم تغير اسم المدينة إلى تونجلي حيث توفي أتاتورك في نفس العام الذي تم فيه إخماد الثورة والتي كانت عملياً آخر الثورات الكردية في تركيا.

بعد هذا التاريخ توقفت الثورات الكردية في تركيا، وأصبح كل من في تركيا تركي حسب الدستور التركي، ومعروفة التي الشعارات التي كانت تعلق على مداخل المدن التركية وساحاتها وتقول: (أنا سعيد لأني تركي)، وأصبح يطلق على الأكراد صفة أتراك الجبال، وبات مصير كل من يتحدث عن الهوية الكردية أو يطالب بها القتل أو الاعتقال أو النفي، وخضعت المناطق الكردية لحكم الطوارئ.

وبموازاة (العدو الكردي) برز (العدو الإسلامي) على أجندة حزب أتاتورك والكماليين والمؤسسة العسكرية التركية التي نصبت نفسها حارساً على مبادئ أتاتورك والأسس التي بنى عليها جمهوريته، فكان تاريخ تركيا الحديث هو تاريخ من ممارسة إنكار التنوع القومي والديني والثقافي وصهر كل هذه المكونات وإقصاء كل من يدافع عن ما سبق تحت شعار العلمانية والتحديث والعصرنة والحفاظ على  أسس ومبادئ أتاتورك، فكان تاريخ تركيا سلسلة من الانقلابات العسكرية بمعدل كل عشر سنوات (1960 – 1971- 1980 – 1997) والانقلاب الأخير سمي بالانقلاب الأبيض ضد مؤسس الإسلام السياسي التركي البروفيسور نجم الدين أربكان عندما كان رئيسا للحكومة، نظراً لأن هذا الانقلاب حصل دون دماء وإعدامات واعتقالات كما جرى خلال الانقلابات السابقة إلى درجة أنها وصلت إلى حد إعدام الرئيس عدنان مندريس في انقلاب عام 1960  ومن بعده رئيس الحكومة جمال جورزيل في انقلاب عام 1971.

في ظل هذا المناخ من القمع الدموي وسياسة الإنكار والإقصاء ولد حزب العمال الكردستاني عام 1978 من رحم اليسار التركي حاملاً شعار تحرير وتوحيد كردستان، ومن ثم فجر كفاحه المسلح ضد الدولة التركية، فكانت المسيرة معروفة بالدماء والدموع، أكثر من 45 ألف قتيل من الجانبين، وآلاف جرائم القتل والاغتيالات التي سجلت ضد فاعل مجهول، وتدمير أكثر من خمسة آلاف قرية كردية، وشرخ اجتماعي هائل بين الأكراد والأتراك، وموازنة حربية تجاوزت خمسمائة مليار دولار، وتوتر في علاقات تركيا مع كل دول الجوار، و وصم الدفاع عن أبسط المطالب الكردية بالإرهاب، وعندما تأكد للجميع استحالة حل القضية الكردية عسكرياً، كانت تلك المحاولات السلمية التي بدأت من عهد الرئيس التركي تورغوت أوزال الذي دفع حياته ثمنا لأول محاولة سلمية لحل هذه القضية سياسياً عندما توسط الرئيس العراقي جلال الطالباني بين أوزال وأوجلان الذي أعلن أول وقف إطلاق نار من جانب حزب العمال الكردستاني في عام 1992 في مؤتمر صحفي بمنطقة البقاع اللبنانية.

في الدوافع التركية والكردية

في الواقع، لا يمكن النظر إلى انطلاق عملية السلام التركي – الكردي من  ايمرالي بعيدا عن الدوافع والحسابات السياسية للطرفين وتحديدا للزعيمين أردوغان وأوجلان، وكذلك بعيدا عن المتغيرات والتطورات الجارية في الداخل التركي والمنطقة وتحديدا الأزمة السورية وتداعياتها، ولعل هذا ما دفع بأردوغان إلى إرسال الرجل المقرب منه رئيس الاستخبارات التركية العامة هاكان فيدان إلى أوجلان في السجن وفتح مفاوضات معه من أجل التوصل معه إلى اتفاق للسلام، حيث يريد أردوغان من وراء هذه العملية تحقيق جملة من الأهداف، لعل أهمها:

1- التطلع إلى تحقيق انجاز تاريخي، أي نزع سلاح حزب العمال الكردستاني بعدما فشلت المؤسسة العسكرية في القضاء على الحزب عسكريا طوال العقود الثلاثة الماضية، وتحقيق مثل هذا الإنجاز من شأنه تغير وجه تركيا والتخلص من الفكر الكمالي وبناء الجمهورية الثانية التي عمل من أجلها سابقا عدنان مندريس وتورغوت أوزال وقد دفع الاثنان حياتهما ثمناً لذلك كما قلنا.

2- إن أردوغان يطمح من وراء ذلك تأمين موافقة حزب السلام والديمقراطية الكردي الذي له 34 نائباً في البرلمان بغية تمرير مشروع الدستور الجديد عبر البرلمان، إذ يحتاج ذلك إلى 367 نائباً في حين حزب العدالة والتنمية له 325 وهو هنا يحتاج إلى أصوات الحزب الكردي سواء لتمرير الدستور عبر البرلمان أو من خلال الدعوة إلى الاستفتاء الذي يحتاج إلى 330 نائباً، وطبعاً هدف أردوغان من وراء الدستور الجديد، هو الوصول إلى قصر تشانقاي الرئاسي عام 2014 بنظام رئاسي جديد له صلاحيات واسعة بما في ذلك حل البرلمان وإقالة رئيس الحكومة ورسم السياسة الخارجية للبلاد.

3- إن أردوغان يريد من وراء خطوة الحل السلمي للقضية الكردية، كسب أكراد المنطقة في العراق وسورية وإيران.. ولاسيما في ظل علاقاته الإيجابية مع إقليم كردستان العراق والتي وصلت إلى مستوى التحالف، وهدف أردوغان هنا له علاقة بالمتغيرات والتطورات الجارية في المنطقة وبناء تحالفات جديدة لإقامة نظام إقليمي جديد فيها، يكون لتركيا الدور المركزي والمؤثر فيه كما يخطط هو و وزير خارجيته احمد داود أوغلو الذي يعد المنظر الإيديولوجي لسياسة حزب العدالة والتنمية.

4- إن أردوغان يريد من وراء ما سبق تجنب تركيا ما يمكن تسميته بالربيع الكردي بعدما أكدت مسيرة ثورات الربيع العربي أن لا دولة في المنطقة بمنأى عنها، وبالتالي ضرورة الانخراط في عملية إصلاح حقيقية تفضي إلى تحقيق الديمقراطية وإلا فإن الانفجار قادم، خصوصاً في ظل استفادة الأكراد من ما جرى ويجري، وتصاعد نفوذ حزب العمال الكردستاني عسكرياً وسياسياً داخل تركيا وخارجها.

5- إن أردوغان يريد من وراء هذه الخطوة الحصول على المزيد من الدعم الأوروبي والأمريكي والغربي عموماً، وتسويق صورة تركيا كدولة نموذجية ناجحة يمكن الاقتداء بها، وهو مسعى يصب في خانة كسب الشارع السياسي في المنطقة على اختلاف مشاربه الفكرية من إسلامية وقومية وليبرالية، في سياسة تركية مدروسة، هدفها تعويم النموذج التركي، كدولة إقليمية قائدة في رسم المسارات الإقليمية للمنطقة سياسيا وأمنيا واقتصادياً.

في المقابل، فإن أوجلان الذي دخل قبل أيام عامه الخامس عشر في السجن يريد أن يكون نيلسون مانديلا الأكراد وتحقيق حلمهم في نيل الحقوق والمطالب ولو على مراحل، كما يريد أن يكون بطل سلام في نظر العالم بدلاً من أن يكون مصنفا في خانة الإرهاب، وعلى المستوى الشخصي يريد حريته الخاصة. من الواضح، أن  دروب السياسة والتطلعات المتبادلة بين أوجلان وأردوغان باتت كثيرة، دروب فتحت الباب أمام الحل السلمي على الرغم من العقبات الكثيرة.

عقبات ومشجعات

في الجانبين التركي والكردي ثمة حمائم وصقور، وثمة من لا ينظر إلى الأمور إلا من منظار مصالحه الحزبية والانتخابية، يضاف إلى ذلك الإرث السلبي للعلاقة بين الجانبين حيث انعدام الثقة بينهما، وعليه يمكن القول إن ثمة عقبات وتهديدات كثيرة تهدد مسيرة السلام التركي – الكردي، ولعل من أهم هذه العقبات والتهديدات.

1- رفض المعارضة التركية ولاسيما حزب الحركة القومية المتطرفة للحل السلمي، انطلاقاً من قناعته بأن أي اعتراف بالقضية الكردية يعد خيانة للقومية التركية ويفتح الباب أمام تقسيم تركيا، وعليه بدأت الأوساط  القومية التركية تشن حملة غير مسبوقة ضد أردوغان وتدعو إلى محاكمته بتهمة الخيانة والعمل على تقسيم تركيا مع أن حساباته إيديولوجية ومتعلقة بالسلطة، فيما حزب المعارضة الرئيسي أي حزب الشعب الجمهوري بزعامة كمال كليجدار أوغلو متحفظ، لقناعته الدفينة بأن أردوغان لا يريد الحل السلمي للقضية الكردية بقدر ما يرى في العملية السياسية التي أطلقها وسيلة لفرض سيطرته المطلقة على السلطة وبناء حكم شمولي بقيادة السلطان العثماني الجديد رجب طيب أردوغان وطموحاته الإقليمية الجامحة.

وعلى الجبهة الكردية ثمة قناعة بأن بعض القيادات العسكرية لحزب العمال الكردستاني غير مستعدة للتخلي عن السلاح حتى لو أعلنت موافقتها على الحل السياسي تلبية لرغبة أوجلان، فهي من خلال الشروط الكثيرة للحوار كفيلة بإفشال العملية السلمية مع الزمن خاصة وأن هذه القيادات لا ترى في اندفاع أردوغان نحو السلام مع حزب العمال الكردستاني سوى مناورة هدفها القضاء على الحزب سياسيا بعدما فشل في ذلك عسكرياً، وتوظيف كل ذلك في خدمة طموحاته وأهدافه السياسية في الداخل والخارج، لاسيما أن أردوغان لم يتخلَّ عن النهج العسكري في التعامل مع القضية الكردية ووصفها بالإرهاب حيث تواصل الطائرات التركية قصف مواقع الكردستاني في الداخل والخارج، أي معسكراتهم في جبال قنديل الواقعة في المنطقة الحدودية بين تركيا والعراق وإيران.

2- غياب الثقة بين الطرفين، فالثابت أن لا ثقة بين تركيا وحزب العمال انطلاقاً من الإرث الدموي بينهما، فالحكومة التركية تنظر إلى الحزب بوصفه تنظيماً إرهابياً ويعمل لصالح أجندة إقليمية ويتحالف مع سورية وإيران وروسيا وحتى إسرائيل حسب حكومة حزب العدالة والتنمية، فيما لا يستبعد الحزب الكردستاني أن يكون هجوم السلام التركي نحو ايمرالي مناورة سياسية، هدفها ضرب الحزب وتفكيكه ودفعه إلى الانقسام مستغلة وضع أوجلان وزعامته الكارزماتية، أو لدفعه إلى التخلي عن أوراقه الإقليمية في الصراع الجاري على رسم الخرائط السياسية للمنطقة من جديد، حيث تقوم تركيا بدور وظيفي في الإستراتيجية الأمريكية الغربية الأطلسية حيال منطقة الشرق الأوسط، كما كانت تقوم سابقا بمثل هذا الدور ضد الاتحاد السوفييتي أيام الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين الغربي والشرقي، في إطار العضوية التركية المبكرة في الحلف الأطلسي منذ عام 1952.

3- ثمة قناعة تركية بأن الدول الإقليمية وتحديدا إيران وسوريا لن تتوانى عن محاولة إفشال عملية السلام بين تركيا والأكراد انطلاقا من أن مثل هذا السلام سينعكس في صالح تركيا ودورها ونفوذها في المنطقة، وانطلاقا من هذه القناعة يرى الحزب الكردستاني أن هجوم السلام التركي لا يحمل الاستمرارية، وإنما مؤقت هدفه كسب المزيد من الأوراق بغية الانتصار في الأزمة السورية، ولعل هذا ما يفسر الشروط التركية لجهة الإصرار على نزع سلاح الحزب الكردستاني قبل تحقيق السلام وإقرار الحقوق القومية الكردية دستورياً والتهرب من مسألة إقرار الحكم الذاتي للأكراد وبدلاً من ذلك محاولة تسويق مفهوم حكم الإدارة المحلية في إطار تركيا ككل وليس في المناطق الكردية وحدها، ورفض أي صيغة كردية قومية لهذا الحكم المنشود كردياً.

في مقابل هذه العقبات، ثمة عوامل مشجعة لحل القضية الكردية سلمياً، إذ ليس خافياً على أحد أن قيادة إقليم كردستان العراق باتت طرفاً مباشراً في هذه العملية، فالحزبان الكرديان الرئيسيان، أي الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة رئيس الإقليم مسعود البارزاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الرئيس العراقي جلال الطالباني يقومان بدور الوساطة بين الجانبين وتقديم التسهيلات اللازمة للجمع بينهما وكذلك تقديم ما يشبه الأفكار والضمانات، حيث لقيادة الإقليم علاقة جيدة بالطرفين، وقد كان لافتا الدور الذي قامت به هذه القيادة في الإفراج عن ثمانية جنود أتراك من أصل 139 تركيا أسرهم حزب العمال الكردستاني خلال السنوات القليلة الماضية.

إلى جانب دور قيادة إقليم كردستان هناك الموقف الأمريكي والأوربي المشجع لهذه العملية التي انطلقت أصلاً بعد استقبال الرئيس الأمريكي باراك أوباما في واشنطن قياديين من حزب السلام والديمقراطي الكردي وحزب المجتمع الديمقراطي، وإثر ذلك سمحت الحكومة التركية لهذه القيادات بزيارة أوجلان في السجن، كما استقبل أردوغان النائبة الكردية الشهيرة ليلى زانا التي قضت عشر سنوات في السجن بعد ترديدها القسم باللغة الكردية في البرلمان التركي.

السلام على خطوات ومراحل

لم تكن عملية إطلاق حزب العمال الكردستاني سراح ثمانية جنود ومسؤولين أتراك سوى بادرة حسن نية من الحزب ودليل على مدى التزامه بتعليمات قائده عبد الله أوجلان الذي أطلق أولى خطوات الحل في عيد نوروز الذي هو العيد القومي للأكراد ورأس السنة الكردية كما هو حسب التقويم الفارسي، على أن تقابل تركيا هذه الخطوة بخطوة تركية مماثلة، تتمثل بالإفراج عن مئات المعتقلين الأكراد الذين تجاوز عددهم ثمانية آلاف معتقل في السجون التركية. لكن إطلاق خطوات من باب حسن النية وتعزيز الثقة شيء والحل السلمي الحقيقي شيء أخر، فثمة خلافات كبيرة وخلافات كبيرة إلى حد التناقض على مستوى الرؤى والبرامج والتطلعات.

فحكومة حزب العدالة والتنمية تريد من حزب العمال الكردستاني سحب مقاتليه الذين يقدر عددهم بنحو ستة آلاف من داخل تركيا إلى شمال العراق ونزع سلاحه، وعودة عناصره الذين هم من أصل كردي تركي إلى الداخل التركي بموجب عفو تصدره السلطات التركية لاحقا دون أن يشمل ذلك القادة الذين تريد تركيا تأمين أماكن لجوء لهم خارج المنطقة، كما تريد تركيا من الحزب التخلي عن أي شعارات أو برامج لها علاقة بالحكم الذاتي، كل ذلك مقابل الاعتراف ببعض الحقوق الثقافية واللغوية دون الاعتراف الدستوري بالأكراد كقومية ثانية في البلاد، وبقاء مصير أوجلان غامضا مع الإشارة إلى إمكانية وضعه في مكان ما تحت الإقامة الإجبارية، والاعتراف بالحكم المحلي في عموم تركيا، على أن تكون هذه العملية عملية طويلة وعلى عدة مراحل.

في المقابل يرى الحزب الكردستاني أن مسألة الحكم الذاتي هو حق من الحقوق المشروعة للشعب الكردي، وانه يجب الاعتراف بالأكراد دستوريا مع حقهم التعليم بلغة الأم وليس مجرد حق التعلم بها كأي لغة أجنبية أخرى مثل الانكليزية والفرنسية، وان يشمل العفو جميع عناصر الحزب بما في ذلك القادة، وان يجري تحويل هؤلاء العناصر إلى قوة شرطة محلية في المنطقة الكردية،وان تتوج الخطوات المذكورة بالإفراج عن أوجلان وضمانات بحريته، وان يكون تنفيذ الخطوات المذكورة بضمانات محلية ودولية، محليا عبر تشكيل لجان حكومية وبرلمانية أطلق عليها أوجلان حسب وثيقة تسربت من السجن اسم (لجنة الوفاق وتقصي الحقائق ) مهمتها دراسة جميع الملفات وإيجاد الحلول لها. ودوليا بمشاركة هيئات دولية وجهات أوروبية وأمريكية في المساهمة والإشراف على هذه الخطوات والتي يمكن إيجازها في ما يلي:

1- خطوات متبادلة مثل إطلاق سراح الأسرى الموجودين لدى الطرفين كمبادرات حسن نية.

2- إعلان حزب العمال الكردستاني وقف إطلاق النار على أن توقف السلطات التركية عملياتها العسكرية وحملات التمشيط.

3- تشديد الرقابة على القوات وعدم الانجرار إلى الاستفزازات كما حصل في أثناء اغتيال ثلاثة أعضاء من حزب العمال الكردستاني في فرنسا فور الإعلان عن إطلاق مفاوضات السلام بين الجانبين.

4- تهيئة الرأي العام التركي والكردي للحل السياسي السلمي.

5- تقدم الحكومة المقترحات اللازمة للبرلمان على أن يقوم الأخير بتشكيل لجان مهمتها رفع العراقيل القانونية أمام الحل، منها تشكيل مؤسسة عفو.

6- أن يكون تنفيذ هذه الخطوات بمراقبة مجلس يتألف من مسؤولين رفيعي المستوى من أمريكا وأوروبا وتركيا وإقليم كردستان العراق والأمم المتحدة.

وانطلاقاً من هذه الآلية يتم البدء بالخطوات العملية، كإطلاق سراح جميع المعتقلين والأسرى، وسحب القوات إلى الخارج، ومن ثم العودة إلى الداخل بعد صدور العفو، البدء بإقرار الحقوق دستوريا، وتحديد مصير أوجلان الذي طلب إطلاق سراحه بموجب مرافعة يقدمها الأخير إلى لجنة الوفاق وتقصي الحقائق التي من المقرر أن يتم الإعلان عنها كما طلب.   

من الواضح أن سبب طرح الأمور على هذا النحو من الخطوات والمراحل له علاقة بغياب الثقة بين الجانبين من جهة، ومن جهة ثانية بتعقيدات القضية الكردية ومسألة حلها سلميا بعد عقود من سياسة الإنكار والإقصاء والعنف المتبادل، ومن جهة ثالثة بحقيقة الإيديولوجية القومية التركية والمفاهيم الضيقة التي نشأت عليها هذه الإيديولوجية ومنعت ثقافة التعدد القومي وأنكرت الحقائق الاجتماعية والتاريخية على الأرض، وعليه فان قطار عملية السلام التركي – الكردي يبدو وكأنه يسير فوق حقل ألغام قابل أن يتفجر في هذا الظرف أو ذلك، لهذا السبب أو ذاك دون أن يعني ذلك التقليل من أهمية العملية السلمية وضرورتها السياسية والتاريخية والإنسانية.

في الواقع، من الواضح أن تسوية القضية الكردية في تركيا في هذه المرحلة باتت أكثر من قضية ملحة لصانع القرار التركي والحزب الكردستاني معاً، لا لوقف مسيرة القتل والدم فحسب، بل لتحقيق رؤية تركيا المستقبل، فدون إيجاد حل لهذه القضية لا يمكن تحقيق الأمن والاستقرار والسلام الداخلي والنهوض الاقتصادي الشامل في البلاد حيث تشير التقارير التركية إلى أن تكلفة الحرب ضد حزب العمال الكردستاني منذ عام 1984 بلغت أكثر من خمسمائة مليار دولار.

الثابت أن انخراط الحكومة التركية في مفاوضات مباشرة مع أوجلان دليل على توفر القناعة بأهمية حل هذه القضية سلميا لأسباب داخلية وخارجية. وعليه، فإن الامتحان المشترك أمام أردوغان وأوجلان هو في قدرتهما على نزع الألغام التي تعترض تحقيق التسوية السلمية، ولعل هذا ما يفسر طرح سيناريو السلام على شكل عدة مراحل متدحرجة، على أن يتم خلال كل مرحلة انجاز مجموعة من الخطوات التي تسهم في تكريس الثقة وإيجاد آليات سياسية وبرلمانية وحزبية لتنفيذ هذه المراحل خطوةً خطوة  وصولاً إلى نزع سلاح الكردستاني والانخراط في الحياة العامة التركية، مع الإشارة إلى أن قضية السلاح بالنسبة للكردستاني قضية إستراتيجية.

دون شك، فإن أردوغان يريد من أوجلان تلك الكلمة السحرية التي تدفع بالمقاتلين الأكراد من حزبه إلى ترك السلاح والمساهمة الكردية في تمرير الدستور الجديد، فيما يريد أوجلان منه كسر جدران ايمرالي ليكون حراً ومنتصراً في هيئة مانديلا الأكراد ويتوج ذلك بحل سلمي للقضية للكردية يعيد صوغ السياسة والجغرافية كردياً.

السلام التركي – الكردي يأتي تعبيراً عن أحلام وتطلعات ونوايا مشروعة لن يُعرف مصيرها إلا بعد معرفة حقيقة ما يفكر به أردوغان ويخطط من أجله، على نحو هل يريد فعلا السلام مع الأكراد ويقلب وجه التاريخ التركي المعاصر؟ أم انه يريد تكرار ما فعله أتاتورك مع الأكراد قبل نحو قرن عندما وجد أن المصلحة العليا التركية تقتضي التقرب من الأكراد والاستفادة منهم في تأسيس جمهوريته على أنقاض الدولة العثمانية التي يريد أردوغان بعثها من جديد؟

كاتب وباحث مختص بالشؤون التركية والكردية(*)

اعلى الصفحة