"2014"عام الهواجس الصهيونية والبدائل الفلسطينية

السنةالثالثة عشر ـ العدد 146 ـ ( ربيع الثاني 1435 هـ) شباط ـ 2014 م)

بقلم: عدنان أبو ناصر

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

آمال الفلسطينيين في العام "2014" لم تختلف عن آمالهم في سالف الأعوام، مع استمرار الاحتلال والحصار والانقسامات الداخلية. لكن ذلك لم يمنعهم من التعلق بأسباب الأمل في مستقبل أفضل.

أما الصهاينة فعلى الرغم من انحياز الإدارة الأمريكية المطلق لهم, وبالرغم من كل ما يبذله الوزير جون كيري لتأمينهم وتأمين كيانهم, وبالرغم من حالة التهافت التي نراها في المشهد السياسي العربي, بالرغم من ذلك كله فإن الهواجس الوجودية والمخاوف الأمنية لازالت تلاحق العدو الصهيوني وتسيطر على مختلف مكوناته. 

هواجس صهيونية بالجملة

تعبر الإجراءات العسكرية التي تتخذها قوات العدو الصهيوني على الحدود الفلسطينية مع لبنان عن هواجس وحالة قلق تعيشها هذه القوات من احتمال وجود أنفاق تظن أن المقاومة الإسلامية بقيادة حزب الله تقوم بحفرها تحت السياج الشائك على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة.

وبين تقرير، أن قوات الاحتلال الصهيوني تقوم منذ عدة أيام وبصورة متواصلة بالکشف علي طول السياج الحدودي مع لبنان، امتدادًا من رأس الناقورة علي ساحل البحر المتوسط غربًا، وصولاً إلى مرتفعات مزارع شبعا وجبل الشيخ عند مثلث الحدود اللبنانية الفلسطينية السورية شرقًا. وبحسب التقرير فإن هواجس قوات الاحتلال دفعها إلى عدم الرکون إلى عمليات الکشف النظري والتفحص اليدوي للسياج، ولا إلى الإجراءات القائمة والمشددة علي امتداد الحدود من أبراج مراقبة وکاميرات تجسس ومحطات تنصت ودوريات يومية علي مدار الساحة وطائرات الاستطلاع والتجسس التي يقوم بها الطيران في الأجواء اللبنانية عموماً والجنوبية خصوصاً. بل دفعته مؤخراً إلى استقدم  آلة ثقيلة خاصة لکشف الأنفاق تحت الأرض تعمل وفق مبدأ الضغط والذبذبة، حيث تحدث اهتزازات وارتجاجات قوية من شأنها أن تکشف أي نفق تمر فوقه أو بجانبه، وتقوم قوات الاحتلال منذ عدة أيام بتسيير هذه الآلة علي طول الحدود مع لبنان بحثًا عن أنفاق محتملة. وفي سياق هذه العمليات أقدمت قوات الاحتلال الصهيوني علي إشعال حريق کبير في الأحراش التابعة لبلدة الظهيرة الحدودية اللبنانية في القطاع الغربي من جنوب لبنان، للتخلص من الأشجار التي تغطي تلک المنطقة وکشف ما إذا کانت تخفي أنفاقًا أو أعمالاً لحزب الله هناك. وفي السياق ذاته، عثرت قوات الاحتلال الصهيوني علي حفرة أحدثتها السيول والأمطار الغزيرة عند السياج الحدودي الفاصل بين بلدة العديسة اللبنانية ومستوطنة مسکاف عام الصهيونية المقابلة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فاستدعت تعزيزات کبيرة ضمت دبابات وناقلات جند وجرافة "بوکلن" قامت بحفر المساحة المقابلة للحفرة في الجانب الفلسطيني بحثًا عن نفق محتمل، إلا أنها لم تعثر علي شيء من هذا القبيل.

وفي نفس السياق أعرب الجنرال "أودي ديكل" قائد فرقة غزة السابق في الجيش الصهيوني، أن فرص التوصل لتسوية دائمة مع الفلسطينيين ضئيلة، لأن الفجوات معهم في القضايا الجوهرية أصبحت أكثر عمقاً من الماضي.

ورأى أن مصلحة "إسرائيل" تستلزم بلورة تسويات انتقالية بغية تثبيت حل الدولتين للشعبين ميدانياً، بحيث يمكن في المرحلة الراهنة إقامة دولة فلسطينية لها حدود مؤقتة على 60% من الضفة الغربية دون إخلاء أي مستوطنة.

من جهته، أكد "أليكس فيشمان" الخبير العسكري الصهيوني أن طاقمًا أمريكيًا من الخبراء تم تشكيله للعمل مع نظراء صهاينة لوضع توصيات لترتيبات أمنية محتملة في حال الانسحاب من الضفة الغربية بما يضمن أمن "إسرائيل" في المستقبل.

وأضاف: الطاقم الأمني يأخذ بعين الاعتبار التطورات المحتملة، بإشراف من الجنرال السابق "جون إيلان"، المعين من وزير الخارجية الأمريكية جون كيري كوسيط بين الصهاينة والفلسطينيين في قضايا الأمن، الذي شكل طاقماً من 20 خبيرا موزعين على "إسرائيل" والولايات المتحدة الأمريكية والأردن.

وأشار: تعمل مقابل الفريق الأمريكي لجنة صهيونية برئاسة رئيس شعبة التخطيط "نمرود شيفر"، وبجانبه رئيس القسم السياسي الأمني في وزارة الحرب "عاموس غلعاد"، بمشاركة عاملين في "الشاباك" يباحثون الأمريكيين في قضايا السيطرة الاستخبارية بعد خروج الجيش من الأرض، بتوجيه عال من وزير الحرب "موشيه بوغي يعلون".

وقد قام "إيلان"، القائد السابق للقوات الأمريكية بأفغانستان، بإجراء اتصالات مع الأجهزة الأمنية في الكيان، ممثلة بشعبة التخطيط في الجيش وجهاز الشاباك، وتناولت مباحثاته الجوانب التكتيكية والإستراتيجية للأوضاع المستقبلية التي قد تحصل في المنطقة من الناحية الأمنية، ويدرس بدائل للميزات التي يوفرها لـ"إسرائيل" الوضع الحالي.

وانطلق "إيلان" من فرضية مفادها أنه في حال قيام دولة فلسطينية، فإن الجيش الصهيوني لا يستطيع دخول أراضيها، وبالتالي يبحث أفراد الطاقم الأمريكي عن "الحلول الإبداعية الخلاقة"، وتوقع التطورات خلال الأعوام الـ30 القادمة.

وأوضح "فيشمان" قائلاً: تحاول اللجان الأمنية الإجابة في وضع تساؤلات عن القضايا العالقة التالية: بعد خروجنا من الأرض، وحصول الفلسطينيين على دولة سيادية، كيف سنمنع تحول الضفة إلى غزة ثانية؟ ماذا ستكون الوسائل الأمنية على الحدود بين الأردن والضفة؟ وكيف يتم الدفاع عن مطار "بن غوريون" في وجه إطلاق نار من الضفة؟ وهل تُنشر قوات متعددة الجنسيات في الضفة الغربية؟

وأضاف: كيف تُمنع سيطرة عناصر جهادية على الضفة؟ وماذا سيحدث إذا انهار نظام الحكم في الأردن؟ وكيف سيبدو نزع السلاح في الضفة إذا أخذنا في الحساب وجود قوات فلسطينية مسلحة؟ وكيف سيتم الدفاع عن الكتل الاستيطانية؟ وماذا سيحدث إذا طلبت "إسرائيل" من الفلسطينيين تنفيذ اعتقالات أو يسلموا عناصر مسلحة؟ وهل التسليم متبادل؟ وهل ستستمر "إسرائيل" بالإبقاء على محطات إنذار وجمع معلومات استخبارية في الضفة؟

كذلك ذكرت صحيفة "جروزليم بوست" الصهيونية أن نوعاً جديداً من الهجمات الفدائية بدأت تؤرق جيش الاحتلال في الضفة الغربية، وأن الجيش بدأ يشعر بالحيرة من اتساع رقعة هذه الهجمات غير المتوقعة.

وقالت الصحيفة على موقعها الإلكتروني: "في أسبوع واحد فقط تعرض الجيش الصهيوني والمستوطنين خصوصاً في مدن جنوب الضفة الغربية لـ 71 هجوم بالحجارة وهذا رقم مخيف".

 ونقلت الصحيفة أن المستوطنين قد لا يكونوا في حصانة دائما مع الجيش كما حدث في بلدة قصرة قرب نابلس عندما تم احتجاز 15 مستوطنا من قبل مزارعين فلسطينيين غاضبين قبل أيام وتعرضهم لضرب مبرح، لذلك باتت مسألةتعرضهم للحجارة أمر مزعج للغاية وتؤرق جيش الاحتلال في المنطقة الوسطى من الضفة الغربية.

وكان آخر الهجمات التي نفذت يوم السبت 11\1\2014حيث أصيب مستوطن بجراح خطيرة إثر قيام فلسطيني بطعنه بسكين في رقبته بمدينة القدس المحتلة.

تبدد الأوهام الفلسطينية

خلال السنوات الثلاث الماضية شغلت الفلسطينيين ثلاث قضايا أساسية هي: ما سُمي بالربيع العربي والمصالحة الفلسطينية والمفاوضات العبثية مع الحكومة الإسرائيلية، وربط الجزء الأكبر من الفلسطينيين مصير القضية الفلسطينية بما تؤول إليه الأمور في هذه القضايا وتم عقد آمال كبيرة عليها، إلا أنه مع نهاية عام 2013 تبددت كل الآمال في وقت واحد، فالربيع العربي بات كابوساً عربياً، وكيف لا وجماعة الإخوان المسلمين التي كانت تتصدى المشهد باتت ـ حسب القانون ـ في مصر جماعة إرهابية وفلسطينيو غزة يدفعون الثمن!، والمصالحة والوحدة الفلسطينية باتت خطابا لا يقل في طوباويته عن خطاب الوحدة العربية في الخمسينيات والستينيات، والمفاوضات انتقلت من العبثية إلى التلاعب بمصير الوطن ولا يحصد منها الفلسطينيون إلا مزيداً من الاستيطان والتهويد, وما خرج علينا به مؤخراً وزير الخارجية الأمريكي جون كيري من ما سُمي بـ"اتفاق الإطار".

فعلى الرغم من أن شكوكاً كانت تراودنا حول حقيقة ما يجري في الدول العربية ما إن كانت ثورات عربية وربيع عربي أو (الفوضى الخلاقة) التي بشرت بها واشنطن منذ عام 2004، وذلك بسبب سرعة الأحداث وتزامنها في أكثر من بلد وحضور الغرب وواشنطن مع جماعات الإسلام السياسي في كل ساحات الأحداث. إلا أن الانسياق وراء الحس الشعبي والتدافع الكبير للجماهير الشعبية بوعي أو بدون وعي للمشاركة فيما تعتقد أنها ثورة، ورغبتنا الدفينة بأن يكون ما يجري ثورة حقيقية، كل ذلك جعلنا نبني الآمال ونؤجل الأحكام القاطعة لحين اتضاح الصورة. وجاء التدخل الغربي الفج في إسقاط نظام القذافي في ليبيا ثم اغتياله، وبروز النزعات القبلية والتقسيمية مختلطة مع الحضور القوي للسلفيين وجماعة القاعدة، ليطرح سؤالاً كبيراً: أية ثورة شعبية هذه التي يقودها ويوجهها حلف النيتو؟ وأية ثورة تبدل دولة واحدة موحدة حتى وإن حكمها دكتاتور بحالة من الفوضى وبدول طوائف على رأس كل منها جماعة مستبدة ودكتاتورية؟. وبعد ذلك جاءت الأحداث في سوريا وقوة حضور جماعات الإسلام السياسي، وخصوصاً من تنظيم القاعدة، المتحالفة مع الغرب وبعض العرب لتزيد من حالة الشك لدينا حول حقيقة ما يجري في العالم العربي، فهل صحيح أن ما يجري ثورة شعبية؟ أم إنها الخراب والدمار للدولة والمجتمع؟. وجاء حكم مرسي في مصر وتداعياته، ثم الثورة على الثورة يوم 30 يونيو ليتبدد ما تبقى من أوهام حول الربيع العربي.

أما عن حوارات المصالحة فيمكن القول: من مكة إلى صنعاء، ومن داكار إلى القاهرة، ومنها إلى الدوحة الخ، توالت جولات المصالحة لمدة سبع سنين دون التوصل إلى نتيجة، بل ازداد الانقسام وترسخ وانتقل من انقسام جغرافي وسياسي لانقسام مجتمعي وثقافي. فهل الانقسام عصي على الحل لهذا الحد؟ وهل كل الدول والأطراف التي تدخلت لإنهاء الانقسام بين الأخوة الفلسطينيين بما تملكه هذه الدول من إمكانيات وعلاقات عجزت بالفعل في التقريب بين مواقف طرفي الانقسام؟ وهل حركتا فتح وحماس جادتان في جهودهما لإنهاء الانقسام ولكن عجزتا عن التفاهم؟ وهل تستطيع هاتان الحركتان إنهاء انقسام فصل غزة عن الضفة وإعادة توحيدهما في سلطة وحكومة واحدة كما كان الأمر من قبل ما حدث في قطاع غزة في يونيو 2007؟.

في الواقع أن لعبة كبرى من الحيل والأوهام تُمارس على الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية، ذلك أن كل ما جرى في جولات المصالحة كان مجرد تضييع للوقت وخداع للشعب ومحاولة كل طرف تحميل المسؤولية للطرف الآخر، فيما القيادات العليا للطرفين تعلم أنها لا تستطيع أن تُعيد توحيد غزة والضفة في سلطة وحكومة واحدة إلا بتفاهم وتنسيق بل وموافقة الكيان الصهيوني، أي أن الشرط الإسرائيلي ضروري لإنهاء الانقسام، كذلك ومع الأحداث الأخيرة في مصر بات الشرط المصري شرطاً أساسياً في موضوع المصالحة.

إن ذلك لا يعني اليأس من مصالحة وطنية تعيد الاعتبار للمشروع الوطني وتضع حدا لحالة التدهور الشاملة، بل تأكيد أنه في ظل واقع الحزبين والسلطتين في الضفة وغزة لا يمكن لهذين الحزبين إنجاز إلا مصالحة الانقسام، أما المصالحة الجادة فتحتاج أولا لاستنهاض وتغيير واقع الفصيلين والسلطتين بتحريرهما من الارتهان لأطراف خارجية، ودمج قوى شعبية جديدة في عملية المصالحة التي يمكن ويجب أن تبدأ بإعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير وتوحيد الجهود لحراك دولي للمطالبة بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية بخصوص القضية الفلسطينية وان يكون هذا الحراك مصحوبا بمقاومة شعبية للاحتلال أو انتفاضة شعبية شاملة لكل أماكن تواجد الفلسطينيين.إن المصالحة الوطنية الحقيقية والممكنة هي مصالحة توحيد الجهود لمقاومة الاحتلال، فالمواجهة الساخنة مع العدو هي التي ستصهر الشعب وتوحد مختلف قواه السياسية وتكشف الوطني من غير الوطني.

أما بالنسبة لوهم أو أكذوبة أن المفاوضات وحدها ستحقق قيام الدولة الفلسطينية المستقلة, فبعد عشرين سنة من المفاوضات مع إسرائيل في ظل استمرار الاستيطان، يبدو أن المفاوضات تحقق أهدافاً متعددة لأطراف متعددة إلا هدف التوصل للدولة الفلسطينية المستقلة. فالمفاوضات تؤمّن: استمرار إعاقة استنهاض المشروع الوطني التحرري، تكريس حالة الانقسام وإعاقة المصالحة، استمرار تفرد واشنطن بالتسوية وبإدارة ملف الصراع في المنطقة، تحقق لإسرائيل استكمال مشروعها الاستيطاني التهويدي في الضفة والقدس...، ولكن الشيء الوحيد الذي فشلت وستفشل فيه المفاوضات إن استمرت على ما هي عليه هو قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وحل عادل لقضية اللاجئين, كما يزعم رعاة هذه المفاوضات.

لذلك فإن المفاوض الفلسطيني يراهن على الوهم، والمشكلة الكبرى أن المفاوض الفلسطيني يتجاهل الشعب وما يتيحه من أوراق قوة تملكها هذه القضية العادلة. إن فريقاً يخوض مفاوضات مع عدو يحتل الأرض دون أن يوظف قدرات الشعب الهائلة لا يمكنه أن يحصد سوى سراب أو مزيد من فقدان الأرض، كما يتجاهل المفاوض الفلسطيني الشرعية الدولية وقراراتها، وهذا ما يفسر المأزق الذي وصلت إليه المفاوضات أخيراً حيث القيادة أمام خيارات صعبة.

البدائل المطلوبة

انتهت جولتا المفاوضات مع حكومة باراك في "كامب ديفيد" (2000)، إلى طريق مسدود، ومع حكومة أولمرت بعد مؤتمر أنابولس (2007). لماذا؟ لأنهما انصبتا على جوهر الصراع، أي قضايا اللاجئين والقدس والمستوطنات والمياه والحدود والأمن أو "قضايا الوضع النهائي، بلغة اتفاق "أوسلو" الذي بشَّر بالتوصل إلى اتفاق بشأنها حتى مايو/أيار1999, الأمر الذي لم يحصل حتى الآن. ما يعني أن الحكومات "الإسرائيلية" المتعاقبة لا تعترف بقرارات الشرعية الدولية مرجعية لتسوية الصراع، وأن راعي المفاوضات الولايات المتحدة لا يعترف بما تقره هذه القرارات من الحقوق الوطنية والتاريخية الفلسطينية. كما إن الكيان "إسرائيل" كنظام وليس الحكومات فحسب، ومثلها الولايات المتحدة، في غير وارد تسوية سياسية للصراع تلبي أدنى الحد الأدنى من هذه الحقوق: إقامة دولة فلسطينية مستقلة وسيدة على حدود 67 وعاصمتها القدس. ما يؤكد أن الموقف الأمريكي من جوهر الصراع إنما يدعم، بل ويتطابق، مع الموقف الصهيوني الساعي إلى بناء التسوية المُفترضة وفقاً لمتطلبات الأمن القومي الصهيوني التي تطالب بالاعتراف بالدولة اليهودية وشطب حق عودة اللاجئين الفلسطينيين واستمرار الاستيطان في الضفة الفلسطينية والقدس وعدم الاعتراف إلا بدولة ناقصة السيادة والتواجد الإسرائيلي في منطقة الأغوار وغيرها من الشروط التي تؤدي إلى التصفية الكاملة للقضية الفلسطينية.

وهكذا صار لزاماً على أطراف الحركة الوطنية الفلسطينية إنهاء انقسامها الداخلي عبر الاتفاق أو التوافق على إستراتيجية سياسية جديدة لإدارة الصراع جوهرها مغادرة خيار التفاوض مع العدو الصهيوني وإخراج ملف القضية الفلسطينية من قبضة الولايات المتحدة وإعادته إلى رعاية هيئة الأمم المتحدة ومرجعية جميع قراراتها ذات الصلة. لماذا؟ لأنه بهذه الإستراتيجية السياسية فقط يمكن توحيد طاقات الشعب الفلسطيني وتوتير قوسه في الوطن والشتات، من جهة، واستنهاض العاملين العربي والإسلامي بالمعنيين الشعبي والرسمي، من جهة ثانية، ومغادرة خيار الرهان العبثي والمدمر على الولايات المتحدة المعادية لأدنى الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، من جهة ثالثة. لكن شيئاً من هذا لم يحصل. بل وفي يوليو/تموز الماضي نجح وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في انتزاع موافقة "وفد" جامعة الدول العربية على فكرة "تبادل الأراضي"، وفي إلزام قيادة منظمة التحرير الفلسطينية على استئناف المفاوضات مع حكومة نتنياهو حول جوهر الصراع من دون شروط مسبقة، وفي ضمان ألا تستكمل قيادة السلطة الفلسطينية خطوة حصولها على مكانة دولة "مراقب" في هيئة الأمم بالانضمام إلى وكالاتها ومنظماتها التخصصية، ومحكمة الجنايات الدولية منها بالذات مقابل إطلاق سراح 104 من الأسرى الفلسطينيين على أربع دفعات، أسرى ما قبل "أوسلو".

لقد كان من السذاجة تصديق حديث كيري عن سعيه لإبرام "اتفاق نهائي" بين قيادة منظمة التحرير وحكومة نتنياهو خلال تسعة أشهر تنتهي في نهاية إبريل/نيسان المقبل. لكن ما قدمه كيري في جولته الأخيرة، أي بعد انقضاء ستة أشهر ويزيد على استئناف المفاوضات، من أفكار تؤسس لـ"اتفاق إطار" مطلوب من طرفي المفاوضات الرد عليها قبل مارس/آذار المقبل إنما يشير إلى نيته تقديم ورقة أمريكية تحدد بضبابية مقصودة معالم "الحل النهائي" ويتم توقيعها من طرفي المفاوضات بعد تقديم تحفظاتهما عليها، ما يحولها إلى تفاهم ملزم لهما أمام الأسرة الدولية بمواصلة المفاوضات على أساسه. ما يعني أن هدف كيري كان منذ البداية إعادة قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بموافقة جامعة الدول العربية إلى عبث التفاوض الثنائي تحت الرعاية الأمريكية لمنع انطلاق الخيار السياسي البديل لإدارة الصراع، ولاستمرار اختزال النضال السياسي في نظرية أن البديل عن التفاوض هو التفاوض. وأي تفاوض؟ التفاوض الثنائي على القرار 242 تحت رعاية الولايات المتحدة التي ما انفك وزير خارجيتها جون كيري يتنقل بين فلسطين والأقطار العربية سعياً إلى شطب القضية الوطنية الفلسطينية وتحويلها إلى قضية تبادل أراض وسكان ورسم حدود وفقاً لمطلب الاعتراف ب"إسرائيل"

هنا بات ثمة حاجة إلى وقفة وطنية فلسطينية سياسية وشعبية لإحباط هذا المخطط الجديد، وحماية خيار المقاومة، وإعادة ملف القضية الفلسطينية إلى رعاية الأمم المتحدة ومرجعية قراراتها كافة لإجبار "إسرائيل" على تنفيذها لا التفاوض عليها. فالمسعى الأمريكي المحموم إن هو إلا مسعى لفرض الشروط الصهيونية ولاستغلال حالة الاسترخاء والانقسام الوطني الفلسطيني وحالة البلبلة الجارية في الوطن العربي، وحالة التراجع الفلسطيني عن المواجهة وعن طي صفحة الانقسام السوداء وعن التخلي عن أوهام خيار ثبت عقمه وخطره، وعن شحذ الهمم واستلهام الدروس من شجاعة الحالة الشعبية. إذ بوسع السائلين عن الخيار البديل عن المراهنة على مفاوضات تم تصميمها أصلاً لتصفية القضية الوطنية التحررية، ولتعزيز مكانة الكيان الصهيوني، ولفتح الأبواب للتطبيع العربي المجاني معه، أن يجدوه، أي الخيار البديل، فيما يبديه الشعب الفلسطيني من شجاعة وصمود ومقاومة قل نظيرها، بدءاً بشجاعة أبناء النقب في مجابهة خطة "برافر" للتهويد والتطهير العرقي، مروراً بشجاعة أبناء القدس في مجابهة خطة استكمال تهويد مدينتهم وتقسيم المسجد الأقصى والاعتداءات المتكررة عليه، تعريجاً على شجاعة أبناء قرى بلعين والنبي صالح والمعصرة وكل القرى والبلدات المحاذية لجدار الفصل والضم لمجابهة محاولة تحويله بما التهم من أرض إلى حد سياسي، وصولاً إلى شجاعة أبناء قرى أريحا لمجابهة مخطط التهام منطقة الأغوار وضمها، وليس انتهاء بشجاعة أبناء قرية قصرة وجوارها الذين لقنوا قطعان المستوطنين درساً قاسياً وقدموا المثال الأكثر سطوعاً على المخزون الكفاحي الهائل لدى الشعب العربي الفلسطيني وعلى استعداده للانطلاق مجدداً لمقاومة العدو ومستوطنيه، ما اضطر وزير الحرب ورمز التطرف الصهيوني موشيه يعالون إلى تحذير المستوطنين ودعوة منظماتهم، "منظمات تدفيع الثمن"، إلى الكف عن الممارسات "غير القانونية" التي يعرف أنها تقع تحت سمع وبصر وحراسة وحماية قوات جيشه وأجهزته الأمنية، لكنه يخشى تحويل شرارة أبناء قرية قصرة البطلة إلى لهيب يعم سهل الشعب الفلسطيني كله . هنا ثمة جواب للسائلين عن بديل خيار التفاوض العبثي المدمر.

وخلاصة القول: إن سنة 2013 هي سنة الفشل الاستراتيجي العربي؛ لما شهدته من تحولات سيكون لها أثرها الاستراتيجي المديد، والممتد لسنة 2014.

وليست أزمة الانقسام الفلسطيني، التي تجري مـُعالجتها بمصالحة، إلا عَرَضاً لمرض هو أزمة المشروع الوطني الفلسطيني، أزمة الشخصية السياسية الفلسطينية، التي تعاني اختلالاً على مختلف المستويات، بما في ذلك انقسامات التنظيمات الفلسطينية نفسها.

ان غياب الحالة السياسية الفلسطينية الصالحة يعني أن كلّ ما يتم وسيتم تحت عنوان مصالحات، ليس إلا عملاً مؤقتاً فئوياً قوامه إعادة إنتاج نظام المحاصصة وتوازن القوى والتربص المتبادَل، وأن تعطل المصالحة لسبع سنوات، يعني أن قراراً خارجياً حاكماً على الضفتين كان يحول دون تطبيق الاتفاقات الناجزة والعديدة بين حركتي حماس وفتح، بكلمة أخرى، ممنوع إنهاء الانقسام الفلسطيني.

كذلك فقد شهدت السنة الماضية استئناف المفاوضات بين السلطة الفلسطينية و"إسرائيل" والتي بدورها أثرت على المسارات المحتملة للسنة القادمة 2014، حيث أن استئناف المفاوضات تمّ على أساس الشروط الإسرائيلية، وليس على الأسس الفلسطينية، وأن الضمانات التي جرى الحديث عنها غير صحيحة.

كما يمكن أن ما يجري في المنطقة ليس تغييراً طبيعياً وإنما تحولاً جذرياً، وأن أخطر ما في ذلك هو أن الصراع مع الكيان الإسرائيلي يجري باتجاه أشكال أخرى من الصراع على أشكال مذهبية ولها تأثيرها على القضية الفلسطينية. فالكيان الإسرائيلي يعيش الآن حالة من النشوة حيث إن سورية تُدمّر، ومصر تتآكل من الداخل.

كما أن هناك ضرورة لاستعادة دور الشتات الفلسطيني من خلال المحافظة على الثوابت لاسيّما حقّ العودة. وأن المطلوب فلسطينياً في ظلّ ما يجري من تقلبات في المنطقة أن يبقى الموقف إيجابياً تجاه القضية الفلسطينية، وداعماً للمشروع الوطني الفلسطيني، وألا تقدم تنازلات عن الثوابت الفلسطينية.

اعلى الصفحة