"إسرائيل" وجنوب أفريقيا.. حلفاء الأمس أعداء اليوم

السنةالثالثة عشر ـ العدد 146 ـ ( ربيع الثاني 1435 هـ) شباط ـ 2014 م)

بقلم: عدنان عدوان

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

ما الذي حال دون اشتراك قادة الكيان الصهيوني، في تشييع جنازة الزعيم الأسطوري نيلسون مانديلا؟ لماذا لم يحظ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالاجتماع مع المئات من زعماء العالم في التشييع؟ ما الذي جعله يتذرع بأن مصاريف السفر والحراسة لحمايته ستكون باهظة؟ لماذا تحجج رئيس الكيان الغاصب شمعون بيريز ـ كما جاء في بيان مكتبه ـ بأنه أصيب بوعكة صحية؟ هل السبب في إحجامهما عن المشاركة يعود لغضب الجنوب إفريقيين على سياسة إسرائيل وارتباطها بـ"الابرتهايد"؟ أم لاستمرار هذه السياسة وتطبيقها في الأراضي الفلسطينية على الشعب الفلسطيني؟.

وللإجابة فوراً نقول: إن غضب الإفريقيين ـ الذين كانوا يعدون المظاهرات ضد "إسرائيل" ـ هو الذي منع قادتها من المشاركة في الجنازة، فهذا الغياب عن هذا التشييع المهيب يبعد إسرائيل عن خارطة العالم، مما يلحق بها أضراراً سياسية ومعنوية كبيرة.

عنصرية في الحالتين

 يبقى العام 1948 من أهم الأعوام بالنسبة للجنوب أفريقيين وللفلسطينيين. ففي كلتا الحالتين، خلق الاستعمار البريطاني الظروف الملائمة لممارسة التمييز والتفرقة العنصرية بحق الشعوب والسكان الأصليين. لقد شهد العام 1948، ولادة نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا وكذلك إنشاء دولة إسرائيل العنصرية على أرض فلسطين.

في كلتا الحالتين أيضاً، رأى كل من الحزب الوطني "الأبيض" والحركة الصهيونية نفسيهما على أنهم "صفوة شعوب الأرض" أو "شعب الله المختار". هاتين المجموعتين وظفت المفاهيم الإنجيلية والتوراتية لخدمة أطماعهم في الأرض بحيث آمنوا بأن الأرض كانت لهم وأنها الآن "أرض بلا شعب لشعبٍ بلا أرض".

نحن نعلم حتى الآن بأن دولة إسرائيل العنصرية قد أنشأت من خلال ارتكاب سلسلة من المجازر والانتهاكات بحق الكثير من القرى والبلدات الفلسطينية (مثل قرية الطنطورة ودير ياسين) وتدمير ما يزيد عن 530 منها. لقد تم في العام 1948، تهجير ما يزيد عن 750 ألف فلسطيني قسراً من منازلهم وقراهم بهدف خلق الظروف الديموغرافية المواتية لإنشاء دولة مقتصرة على اليهود من قبل الحركة الصهيونية. أما الفلسطينيون الباقون فقد أنكر حقهم في أرضهم دون أي تعويض. نتيجة لتلك الانتهاكات، يشكّل اللاجئون الفلسطينيون المجموعة الأكبر في العالم في تاريخنا الحديث.

احتل المستعمرون البريطانيون والهولنديون الأراضي بالقوة العسكرية والإرهاب المتمثّل بخوض سلسلة من الحروب الهجومية الدموية. وقد حقق النظام العنصري أطماعه في الاستحواذ على الأراضي من خلال تشريعه لسلسلة من القوانين التي سهّلت مهمته في السيطرة على الجنوب أفريقيين وتفريقهم في "كانتونات" جغرافية عنصرية. وتشمل هذه القوانين قانون "نظام العبور" للسيطرة على حركة السكان الأصليين وإجبارهم على العيش فقط في أماكن تواجدهم أو "معازلهم" المخصصة. هذه "المعازل" أو أماكن حصر النمو الجغرافي، والتي تشكّل ما نسبته 13 من الأرض، اعتبرت على أنها أراضي السكان الأصليين. قوانين أخرى شرّعت لضمان تقسيم السكان بحسب عروقهم وقبائلهم، وكذلك تم تقسيم المصادر والموارد من قبل الدولة بشكلٍ غير عادل وعلى جميع المستويات الحياتية.

أما في حالة دولة الإسرائيلية العنصرية و"الأراضي الفلسطينية المحتلة"، فباستطاعتنا أن نرى مزيجاً من القوانين شبه-العنصرية والديكتاتورية العسكرية القمعية. حواجز تفتيش، إغلاق وحصار، جدار الفصل العنصري، مستعمرات، طرق لاستخدام المستعمرين فقط، بطاقات تعريف الهوية، لوحات رقمية ملوّنة للسيارات وتصاريح ذات أصناف مختلفة، تشير بمجموعها على تفرقة عنصرية، وكذلك حال "المواطنين من الدرجة الثالثة" من السكان الفلسطينيين القاطنين داخل الخط الأخضر. كما نلاحظ وجود قوانين (مثل قانون "اكتساب الأرض"، وقانون "الدخول إلى إسرائيل"، قانون "الخدمة العسكرية") وكذلك اعتماد تشريعات دينية حاخامية عنصرية. نلاحظ كيف سيطرت دولة إسرائيل بشكلٍ واضح من خلال نظام عنف وتفرقة عنصرية ممنهجة. لقد عملت دولة إسرائيل العنصرية على تطوير نظام تفرقة معقّد، وأرفقته بنظامها القضائي/القانوني مضاهيةً بذلك النظام العنصري الجنوب أفريقي.

لقد وُعِدَ قادة حركات التحرر الجنوب أفريقية بالحرية إذا ما أدانوا العنف وقبلوا بـ"نظام المعازل/الكانتونات". لم يقبل القادة بمهزلة هذا النوع من تقرير المصير مؤكدين على مطلبهم بأن من حق الشعب الجنوب أفريقي أن تكون له دولة موحدة ومتكاملة بحقوق ديمقراطية أساسية للبيض والسود على حدٍ سواء. أعلنت شعوب العالم بأن النظام الحاكم في جنوب أفريقيا هو نظام تفرقة عنصرية واعتباره جريمة بحق الإنسانية وباشرت بمقاطعة مكثّفة لهذه الدولة العنصرية. بالطبع، الدول المنبوذة مثل إسرائيل، تشيلي إبان حكم "بينوشيه"، وحكومات أغلب الدول الغربية، دعمت شراكاتها التجارية، الثقافية، والعسكرية وروابطها النووية مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

واليوم، تقترح أمريكا المهيمنة وأوروبا على الفلسطينيين دولة "معازل" ذات اقتصاد غير مستقل، وبدون تواصل جغرافي ومنزوعة السلاح، بحيث يزداد حجم استغلال الفلسطينيين والسيطرة عليهم في كانتونات تسيطر عليها الدولة العنصرية. إن اقتراح إيجاد "معازل" تابعة وخاضعة لدولة عنصرية هي إسرائيل هو نوعٌ هزيل من تقرير المصير على غرار تلك التي أوجدها النظام العنصري في جنوب أفريقيا. وفوق كل هذا، يريدون من العالم أن يتناسى ملايين اللاجئين الفلسطينيين.

في إسرائيل، وليس أقل من جنوب أفريقيا، يطلب إحلال الحد الأدنى من العدالة لتفكيك بنى نظام التفرقة العنصرية واستبداله بفلسطين الديمقراطية لجميع مواطنيها من عرب ويهود، يعيشون جنباً إلى جنب بحقوق متساوية. وعلى وجه الخصوص، لن يكون بالإمكان إيجاد حل للصراع العربي/ الفلسطيني-الإسرائيلي دون تطبيق حق اللاجئين والمهجرين الفلسطينيين وأحفادهم في العودة إلى منازلهم.

إننا نقف معكم، ملايين الناس حول العالم، لإحياء ذكرى النكبة. إننا نحيي شجاعة وصمود اللاجئين الفلسطينيين المشتتين في جميع أرجاء العالم. إننا نتذكّر معكم مجزرة صبرا وشاتيلا، وغيرها من المجازر التي ارتكبت بحقكم. إن قوة إرادة البقاء لديكم، وقوة وثبات المقاومة، بالرغم من سياسة الإبادة الجماعية البطيئة هي صفعةٌ على وجه الطغاة الذين يريدونكم أن تختفوا من على وجه الأرض. رفض الفلسطينيون أن يصبحوا مثالاً حديثاً للهنود الحمر في أمريكا، والذين شتتتهم الإمبريالية ومن بقي حيٌ منهم أجبر على العيش في "معازل" يهان فيها يومياً. للمضطهدين ومحبي العدالة في هذا العالم، نضالكم ومقاومتكم هي منبع غير متناهٍ من الدعم، الأمل، والإلهام. في وجه كل الحكومات والهيئات الدولية المنافقة في هذا العالم، إننا ندعو جميع الشعوب للتضامن والتعاضد مع الشعب الفلسطيني وتكثيف عزلة دولة إسرائيل العنصرية ورفع شعار حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم الأصلية.

علاقات حميمة مشبوهة

لقد بدأت العلاقات الحميمة بين إسرائيل وحكومة "الأبرتهايد" في جنوب إفريقيا، منذ سبعينات القرن الماضي حتى أنها كانت الدولة الوحيدة التي لم تشارك في العقوبات عام 1986، التي فرضها المجتمع الدولي على جنوب إفريقيا، وهذا يعتبر وصمة عار في جبين الدولة العبرية، ففي عام 1991 وقعت إسرائيل على مذكرة تفاهم مع جنوب إفريقيا، أهم ما جاء فيها: توسيع التفاهم والتعاون بين البلدين في جميع المجالات، الأمنية والاقتصادية والصناعية والثقافية والسياحية والزراعية والاستثمارات المتبادلة على أعلى المستويات، إضافة إلى التعاون العلمي والتكنولوجي، والمناجم، وتبادل العلماء والمهندسين، وإقامة مصانع مشتركة، وإجراء الأبحاث المشتركة، هذه الوثيقة التي اشتملت على 11 بنداً رئيسياً، و24 بنداً فرعياً، أما الاتفاقيات الأمنية والعسكرية، فلم تشملها هذه الوثيقة، وبقيت سرية إلى أن انتهى حكم "الأبرتهايد".

لقد كانت إسرائيل الدولة الوحيدة بين دول العالم المتعاونة مع دولة "الأبرتهايد"، التي تاجرت وأيدت ودربت وباعت واشترت وبنت وأجرت تجارب عسكرية نووية، كشفت عنها وسائل الإعلام العالمية، وبررت إسرائيل هذا التعاون وهذه التجارب بالدفاع عن نفسها، بتسويغات مختلفة، ونقلت جريدة "يديعوت احرونوت 4-6-2011"، عن صحيفة "الغارديان" البريطانية، أن إسرائيل نقلت في رحلة طيران من تل أبيب إلى جنوب إفريقيا في سبعينات القرن الماضي، صاعق قنبلة نووية من مادة "ترتيوريوم" الفيزيائية المشعة المطلوبة لتفعيل أنواع محددة من القنابل النووية، فكيلو غرام واحد من هذه المادة من شأنه أن يساعد في تشغيل 12 قنبلة نووية، فهذه الإجراءات كانت جزءاً من سعي جنوب إفريقيا لتطوير قدراتها النووية، وقد كشفت وثائق سرية ثبوت امتلاك إسرائيل رؤوساً حربية نووية، حاولت بيعها أو باعتها لجنوب إفريقيا عام 1975، ونقلت جريدة "هآرتس 31-7-2009" عن مصادر أجنبية قولها أن التجربة النووية التي جرت في المحيط الهندي قبل 30 عاماً، كانت تجربة مشتركة بين إسرائيل وجنوب إفريقيا، وفقاً لوسائل إعلام أجنبية.

كذلك فقد بدأ التعاون النووي بين إسرائيل وجنوب إفريقيا، إثر لقاء سري عام 1974 جمع علماء نوويين من كلا الجانبين، ضم رئيس حكومة إفريقيا، ووزير دفاعه، وبمشاركة شمعون بيريز الذي كان وزير الدفاع الإسرائيلي، حيث تم التوقيع على اتفاق سري للدفاع المشترك، وهذا الاتفاق أثمر عن إنتاج 7 قنابل نووية، وهذه القنابل ـ حسب المصادر الخارجية ـ نقلت لإسرائيل بعدما تخلت بريتوريا عن برنامجها النووي، فالوثائق التي نشرتها جريدة "هآرتس 11-12-2013" ـ التي أفرجت عنها سلطات بريتوريا من الأرشيف ما بعد انهيار نظام الفصل العنصري، ووضعتها بين أيدي الباحثين والدارسين ـ تسلط الأضواء على جوانب مختلفة من العلاقات بين إسرائيل ونظام الأبارتهايد، ومن هذه الوثائق الشراكة الإسرائيلية في برنامج جنوب إفريقيا النووي، كذلك برامج تتعلق بتطوير صواريخ "أرض ـ أرض" متوسطة المدى عرفت بـ"أريحا" والتي يلقبها جنوب إفريقيا بـ"شيله"، إلى ذلك بيع إسرائيل دبابات "ميركافا" لجنوب إفريقيا، كما مولت جنوب إفريقيا صناعة وإطلاق القمر الصناعي الإسرائيلي من نوع "أوفيك" للتجسس، ولولا هذا التمويل لجمدت صناعة هذا القمر، وجنوب إفريقيا زودت إسرائيل بالمال والسلاح والمتطوعين في عدوان عام 1967، "جريدة دافار 20-4-1984"، وإسرائيل تولت تحصين جنوب إفريقيا عام 1980 بالأسلحة الجوية والبرية والبحرية والتكنولوجية حين كانت تعاني من العزلة الدولية.

وفي عام 1979 رصد قمر صناعي أمريكي التجربة النووية المشتركة بين إسرائيل وجنوب إفريقيا في المحيط، وعانت إسرائيل بعد حرب تشرين المصرية عام 1973 أزمة مالية خانقة أخرجتها جنوب إفريقيا من هذه الأزمة بشرائها ألف دبابة من نوع "ميركافا" الإسرائيلية، بسعر 810 آلاف دولار للدبابة الواحدة، فقد كان نظام "الأبارتهايد" في جنوب إفريقيا، الزبون الأكبر والأهم الذي أنقذ الصناعات العسكرية الإسرائيلية من الانهيار، بتمويله المالي السخي لهذه الصناعات، إذ أن إسرائيل التي لم يكن لديها قيود بتزويد جنوب إفريقيا بالسلاح، بعد أن فرضت القوى العظمى العقوبات عليها، ومنعت عنها استيراد السلاح، فإسرائيل سدت هذا الفراغ بتزويدها بجميع ما تحتاج إليه من سلاح، وأقامت شركة للتكنولوجيا المتطورة معها، وباعت لجنوب إفريقيا 60 طائرة من نوع "كفير"، بعد أن خرجت من خدمة سلاح الجو الإسرائيلي، بقيمة 1.7 مليار دولار، وهو مبلغ غير مسبوق في المبيعات العسكرية الإسرائيلية، وطورت الشراكة بين الجانبين مدفعاً لإطلاق قذائف تحمل رؤوساً نووية لصالح الطرفين.

الصحفي البريطاني جيمس آدامز، ألف كتاباً حول العلاقات المشبوهة بين إسرائيل وجنوب إفريقيا، أطلق عليه اسم "الحلف غير الطبيعي"، واحتوى على كافة العلاقات الأمنية والسرية بين الجانبين، نشرته عام 1984 جريدة "دافار" الإسرائيلية على حلقات، وكان صحفيون إسرائيليون يترددون على جنوب إفريقيا في عهد "الأبارتهايد"، ضيوفاً على حكومة الفصل العنصري، التي كانت تغمرهم بكل نعمة، أمطروها بمقالات المديح والتقدير، دون أن يروا في ذلك أي سوء، كما قام رئيس حكومة النظام العنصري، وعدد من وزرائه بزيارة لإسرائيل، حظوا باستقبال ما كانوا ليحظوا به في أي دولة أخرى.

وخلاصة القول، فإن هناك الكثير من التشابه بين الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين، ونظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، إذ أصبحت جنوب إفريقيا مركزاً للعداء لإسرائيل والدعوة لمقاطعتها، ونزع الشرعية عنها، فـشمعون بيريز كان أحد رموز هندسة العلاقات بين إسرائيل ونظام التمييز العنصري السابق في جنوب إفريقيا، والذي كان مانديلا في طليعة المناضلين ضده، وهذا من أسباب عدم حب شعب جنوب إفريقيا لإسرائيل، واعتبارها دولة غير مرغوب بها، حتى أن طلاب جنوب إفريقيا يقاطعون إسرائيل، كما قطعت جامعة "جوهانسبرج" علاقاتها مع جامعة "بن غوريون"، وكانت جنوب إفريقيا في طليعة دول العالم التي قاطعت منتجات المستوطنات، فقد تدهورت العلاقات بين إسرائيل وجنوب إفريقيا على خلفية امتعاض الأخيرة من ممارسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية، خاصة في أعقاب بناء جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية عام 2004.

من الواضح أن التمييز العنصري، والعدوان، واستعباد الشعوب، هو القاسم المشترك بين الدولتين، ويبقى السؤال: هل ستطلب إسرائيل العفو والغفران من نيلسون مانديلا، ومن شعب جنوب إفريقيا على التعاون المخزي، وصفقات السلاح في حربهم ضد السود؟ وهل سيأتي يوم لتعتذر إسرائيل للشعب الفلسطيني على احتلالها لأراضيهم، والممارسات العنصرية وسياسة "الأبارتهايد" ضد الشعب الفلسطيني؟ وماذا بشأن مستقبل النووي الإسرائيلي؟

عنصرية القيادة الإسرائيلية

تحاول إسرائيل منذ انتهاء الحرب الباردة أن ترسم لنفسها صورة الدولة المدافعة عن الحرية والديمقراطية في العالم، بل وتحاول أن تعيد كتابة تاريخها بشكل ينسجم مع ذلك. وفي هذا السياق تحتاج إلى قدر كبير من الفظاظة لإزالة اللطخات السوداء الكثيرة التي حفرتها علاقاتها مع الأنظمة الاستبدادية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. غير أنها تحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير عندما يتعلق الأمر بمحاولتها إزاحة إرث ثقيل من التعاون والتماثل مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وقد برزت صعوبة ذلك على وجه الخصوص عندما عجزت عن التماثل مع العالم بأسره في التعاطي مع وفاة المناضل نلسون مانديلا، الذي وفر لحظة التفاف عالمية حول إرث معادٍ للعنصرية والاستعمار.

ويحاول عدد من الإسرائيليين، الراغبين في الإحساس بأنهم كباقي شعوب الأرض، الإيحاء بأن العلاقات بين إسرائيل ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا كانت عابرة. ويقفز هؤلاء أصلاً من فوق واقع التماثل في المنطلقات بين الصهيونية والتفرقة العنصرية زمانياً ومصلحياً. والأمر ليس اضطراراً، ولم يحدث فقط في السبعينيات، بل سبق ذلك واستمر إلى وقت انهيار نظام الفصل العنصري. وادّعاء أن إسرائيل أنشأت العلاقات مع جنوب أفريقيا بعد قطع الدول الأفريقية لعلاقاتها مع إسرائيل إثر "حرب تشرين" العام 1973 ليس صحيحاً البتة برغم أنه يشير إلى تعمقها.

ويشير المعلق الأمني في "هآرتس" أمير أورون إلى المواقف العنصرية تجاه السود عموماً في السياقين الأفريقي والأمريكي، التي كانت رائجة في القيادة الإسرائيلية. ويستذكر أقوال اسحق رابين العنصرية تجاههم حينما كان سفيراً لإسرائيل في واشنطن، وأفعال شمعون بيريز في بلورة العلاقات السرية مع جنوب أفريقيا بعد "حرب تشرين"، وتشكيله لجنة "إيسا" المشتركة. وفي ذلك الوقت تسارع النهم الإسرائيلي للعثور على شركاء إقليميين، خصوصاً إيران وجنوب أفريقيا، لتعزيز الصناعات العسكرية الإسرائيلية. ويشرح أن "رابين وبيريز لم يكونا الوحيدين اللذين طورا الملف الجنوب أفريقي. عندما فتحت الأرشيفات الرسمية في بريتوريا ووقعت في أيدي باحثين ناشطين، ومنهم إلى الكتب ومخازن المعلومات، رشحت منها مواد مثيرة عن نسيج العلاقات الخفية بين كل وزير دفاع ورئيس أركان في إسرائيل وبين الجالسين في رأس الرجاء الصالح".

وتبين الوثائق، التي كشف عنها بعد سقوط نظام التفرقة العنصرية، أن بيريز مثلاً اقترح تزويد جنوب أفريقيا بنصف إنتاج إسرائيل من دبابات "ميركافا"، فضلاً عن المشتريات من اليورانيوم الجنوب أفريقي. بل هناك إجماع على أن القنابل الست التي فككتها جنوب أفريقيا في تسعينيات القرن الماضي، كانت تحمل بصمات الشراكة الإسرائيلية. وعدا ذلك هناك صواريخ "يريحو"، وهي نتاج تطوير مشترك، وحملت في جنوب أفريقيا اسم "شيله". كما جرت محاولات لإشراك جنوب أفريقيا تقريباً في كل المشاريع الإسرائيلية لإنتاج الصواريخ والطائرات الحربية.

واعتبر ألوف بن في "هآرتس" أيضاً أن نظام التفرقة العنصرية أنقذ الصناعات الحربية الإسرائيلية حتى وهو في النزع الأخير. وأشار إلى أن جنوب أفريقيا كانت الزبون الأكبر والأهم، لأن جيشها كان يتمتع بميزانية هائلة في وقت فرض الغرب عليه عقوبات، ورفضوا تزويده بالسلاح. وكانت إسرائيل الدولة الوحيدة بين الدول "الغربية"، التي لم تطبق نظام العقوبات الذي فرضته الأسرة الدولية على جنوب أفريقيا.

واعتبر بن أن التعاون الإسرائيلي الجنوب أفريقي بلغ ذروته في نهاية الثمانينيات، حينما شاركت إسرائيل جنوب أفريقيا التكنولوجيا الصناعية العسكرية التي جمعتها على مر السنين. وكانت أكبر الصفقات التي عقدت هي التي أبرمت في العام 1988، حينما باعت إسرائيل بقيمة 1.7 مليار دولار لجنوب أفريقيا 60 طائرة من طراز "كفير" بعد خروجها من الخدمة في سلاح الجو الإسرائيلي. وتم ترميم الطائرات وتحديثها وتزويدها بأجهزة متطورة، ولكن تم عرضها وكأنها طائرة مختلفة من تطوير الصناعات العسكرية الجنوب أفريقية تحمل اسم "شيتا سي". 

وبحسب ألوف بن، فإن هذه الصفقة ساعدت الصناعات الجوية الإسرائيلية في الخروج من أزمة خطيرة وقعت فيها إثر إلغاء مشروع طائرة "لافي" الحربية في العام 1987. ومعروف أن طائرة "كفير" هي النسخة الإسرائيلية من طائرات "ميراج" الفرنسية. وكانت الصناعات العسكرية الإسرائيلية قد أنتجت الكثير من المعدات والأجهزة لمصلحة طائرة "لافي" وتركز الجهد لتصديرها. وفي هذا الوقت اشترت الصين تكنولوجيا إسرائيلية لطائرات "جي 10" التي تصنعها، والتي أسماها الإسرائيليون "لافي الصينية". أما الجنوب أفريقيين فاختاروا شراء طائرات "كفير" وتزويدها بالمعدات التي كانت معدة لطائرة "لافي".

عموماً الصفقة الإسرائيلية مع جنوب أفريقيا أبرمت برغم العقوبات الأمريكية. ولكن المسلي في الموضوع أن الجنوب أفريقيين أفلحوا في شراء محركات جديدة من فرنسا لطائرات "كفير"، الأمر الذي أغلق الدائرة: "ميراج" صممت في فرنسا ونسختها إسرائيل، وعادت إلى محركها الفرنسي الأصلي.

وفي كل حال يشرح بن أن مشروع الفضاء الإسرائيلي ومنه أقمار "أفق" التجسسية اعتمد على تمويل جنوب أفريقي، ويبين أن علاقات إسرائيل مع نظام الفصل العنصري لم تنقطع رغم الضغط الأمريكي حتى انهيار نظام الفصل العنصري.

عدو جديد لإسرائيل

الأنباء عن وفاة نيلسون مانديلا، أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا ويعتبر من أكبر رموز الصراع المناهض للأبارتهايد، عن عمر يناهز الـ95 عاماً أتت في وقت العلاقات الدبلوماسية فيه بين إسرائيل وجنوب أفريقيا متجمدة.

هذا الحدث الحزين يوفر فرصة للتأمل في الحوار غير السهل الحاصل بين الدولتين، الذي تشوه منذ فترة طويلة ومازالت تطارده أشباح الظلال الطويلة التي يلقيها الأبارتهايد.

العلاقات القريبة التي ربطت بين دول إسرائيل الحديثة مع نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا لطخت صورة إسرائيل في جنوب أفريقيا، والتي من الصعب تغييرها.

جنوب أفريقيا أبدت دعمها للدولة الحديثة عندما صوتت لصالح خطة التقسيم التابعة للأمم المتحدة في عام 1947، والتي أدت إلى إقامة الدولة اليهودية. في ذلك الوقت الحزب الوطني الجنوب أفريقي صعد إلى سدة الحكم وأقام نظام الأبارتهايد والذي استمر حتى عام 1991. هذان الحدثان المهمان يشكلان نقطة بداية أساسية لصداقة مثيرة للجدل.

يوسي بيلين، نائب وزير الخارجية الإسرائيلي بين السنين 1992 و 1995، قال لقناة i24News إن العلاقات المتبادلة بين الدولتين ما زالت متأثرة من سياسة إسرائيل الخارجية خلال سنوات السبعين والثمانين من القرن الماضي.

نيلسون مانديلا قال لـ"بيلين" شخصياً إن سياسة جنوب أفريقيا تجاه إسرائيل كانت حرجة بسبب الدعم الإسرائيلي لنظام الفصل.

بيلين حذر من السياسة الإسرائيلية هذه وحاول إيصال خطر هذه السياسة إلى المؤسسة الإسرائيلية: "أنا أعرف أن الغالبية السوداء ستحصل على الاستقلال ولن تغفر لنا موقفنا". بيلين أضاف أن القادة في حينها رأوا به على أنه رجل أيديولوجي الذي تتعارض مبادئه مع المصالح الحيوية لإسرائيل والتي تصارع من أجل البقاء.

حسب بيلين، مصالح إسرائيل في جنوب أفريقيا كانت مكونة حينها من أمرين: فبالإضافة إلى التعاون الأمني بين الدولتين، كانت هناك قضية المجتمع اليهودي الذي يعيش في جنوب أفريقيا، والذي يصل عددها إلى أكثر من 120 ألف شخص. غالبيتهم العظمى كانوا جزءاً من الأقلية البيضاء في الدولة الأفريقية، والذين عاشوا تحت خوف من قلب النظام ووصول السود إلى الحكم.

لذلك لا يخجل بيلين من الإشارة إلى المجتمع اليهودي في جنوب أفريقيا على أنهم أثروا بشكل كبير على السياسة الخارجية الإسرائيلية، على الرغم من أن العديد من الشخصيات اليهودية المعروفة مثل هيلين سوزمان أو طوني ليون دعموا الصراع المناهض للأبارتهايد وكانوا أعضاء في المجلس الأفريقي الوطني.

بواسطة اتصال هاتفي وضع بينجامين بورجرند، نائب محرر صحيفة "الراند دايلي ميل" السابق وناشط معروف في الصراع المناهض للأبارتهايد، الإطار التاريخي للموضوع عندما استشهد بحرب يوم الغفران (حرب أكتوبر) عام 1973 على أنها كانت فترة صعبة بالنسبة لإسرائيل عندما - وبسبب ضغط كبير من الدول العربية - أعلنت غالبية الأنظمة الأفريقية عداوتها لإسرائيل. جنوب أفريقيا بقيت الشريك الاستراتيجي الوحيد للدولة اليهودية في القارة.

حسب بورجرند فإن غلطة إسرائيل الكبرى، والتي كانت حينها معزولة من الساحة الدولية، هو إبقاء علاقتها الودية مع النظام. لكن عندما تعلق الأمر بالشراكة التجارية، جميع الأنظمة الغربية، من بينها الولايات المتحدة وبريطانيا، كانت مذنبة بالنفاق: "على الرغم من الإعلانات الرسمية، جميعها قامت بعقد صفقات تجارية مع جنوب أفريقيا خلال فترة الأبارتهايد". وهذا صحيح، إذ أن الولايات المتحدة، التي كانت موجودة خلال تلك الفترة في الحرب الباردة مع الإتحاد السوفيتي السابق، خشيت من وقوع جنوب أفريقيا المليئة بالموارد الطبيعية تحت سيطرة السوفييت.

ثلاثة رؤساء صعدوا إلى الحكم منذ نهاية الأبارتهايد، لكن يبدو أن أحداً منهم لم يطمح إلى التقرب من إسرائيل. من مانديلا وحتى جيكوب زوما، الموقف الجنوب أفريقي من إسرائيل يبقى ناقد جداً، والسبب هو القضية الفلسطينية. خلال زيارته الأولى إلى إسرائيل – والأخيرة - طالب مانديلا بالانسحاب من الأراضي المحتلة. الصراع الجنوب أفريقي والصراع الفلسطيني من أجل الاستقلال مشابه لصراعهم ضد الأبارتهايد.

حسب بورجرند، المقارنة خاطئة، لكنه يبقى مركز حوار اليسار القومي الإسرائيلي حول احتلال إسرائيل لأراضي فلسطينية. كونه عاش بنفسه تحت وطأة الأبارتهايد وصارع ضده، قال بورجرند إن "الاحتلال هو أمر فظيع لكن مقارنته مع الأبارتهايد، الذي يعبر عن تدمير الحياة، هو خاطئ". وأضاف أن هؤلاء الذين يقارنون بين الأمرين نسوا كيف كان الأبارتهايد.

ولهذا ليس من العارض أن مبادرات وظواهر وأفكارا مضادة لإسرائيل بدأت في جنوب أفريقيا تحولت إلى ظواهر عالمية. وكانت جنوب أفريقيا هي التي استضافت في مدينة دربن في 2001 مؤتمر الأمم المتحدة لحقوق الإنسان – وهو مؤتمر تحول إلى مهرجان كراهية لإسرائيل. وكانت جنوب أفريقيا هي التي نفذت سياسة قطيعة أكاديمية مع إسرائيل بالقرار الذي اعتُبر سابقة لجامعة جوهانسبرج على قطع علاقاتها بجامعة بن غوريون.

اعلى الصفحة