السنةالثالثة عشر ـ العدد 146 ـ ( ربيع الثاني 1435 هـ) شباط ـ 2014 م)

بقلم: غسان عبد الله

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


الفهرس


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الاشراف على الموقع:
علي برو


للمراسلة

على فَرَسِ النَّقَاءْ

(إلى سماحة السيد حسن نصر الله ـ حفظه الله ـ)

آفاقُ الحلمِ تَضِيقُ، واليمامُ في طيّاتِهَا يَخْتَنِق.. في كلِّ نهارٍ وجهٌ للِمُحال، والليلُ كما هو.. الزمنُ واحدٌ منذُ أولِ غفوَة.. الخوفُ واحدٌ منذ أولِ صَدْمَة.. والحِقْدُ واحدٌ منذُ أوَّلِ بِرْكَةِ دَم، لا اختلافَ إلا في نكهةِ الجُوعِ وطريقةِ الحُزنِ والهُرُوب..

في الضاحيةِ.. ثمةَ من لا يريدُ لك أن تفرح.. والموتُ أوّلُ القاتلين لأفراحها.. ثمةَ الحزنُ أيضاً... لكنَّ سيّد المقاومةِ.. كانَ يدرأُ جحفلَ الحزن عن أبوابنا.. وعن أبواب الفقراء والمساكين.. كان يقول لنا.. لا تَهِنوا ولا تحزنوا.. افرحوا كما لو أن الحزنَ لا مكان له.. افرحوا الفرح الراقي.. ولا تستغرقوا بافتعال الفرحِ والانشغال عن أحزان الخلق.. اصنعوا الحبَّ أيها الأحبة.. الحبَّ في الله.. لكل عيال الله.. الله.. الله في الحب.. وأنا أقول لك سيدي أنت الحبُّ.. الذي لا يفارقُ نبض القلب.

مولاي.... حيث يدُكَ لا تزالُ تحنو علينا كصغارِ العشبِ لينمو في رياضك.. كل عامٍ وأنت بخيرٍ... لم تُطلّ علينا هذا العام.. غيابُكَ يحركَ دمَ الإدمانِ عليكَ.. وأنا يا سيدي ما زلتُ شتائيَّ الملامِحِ، والربيعُ يُجَلِّي أطيافَهُ في مرايا الشُّعور، أنسابُ في كتاباتي كُلّما أمعنتُ في الضبابِ.. وكُلّما بَلَّلَني المطرُ وتَقَمَّصَتْنِي الغُيومُ في أَزِقَّةِ الحَيرةِ..

صَارَ مُمْتِعاً لي أن أغوصَ في أعماقِ البحر.. أحترقَ بينَ ألواحِ الجليدِ وأتجمَّدَ كلما انهمَرَتْ فوقي أصابعُ الجمرِ والرماد.. جميلٌ أن أصبحَ فَصْلاً داخِلَ فصلٍ، أن تختلطَ عليَّ الأحاسيسُ، أن أفرحَ عندما أحْزَنُ، أن أمُوتَ وأنا أَحْوَجُ ما أكونُ إلى الحياة..

ما الحُبُّ؟.. لِكُلٍّ تأويلُهُ.. ونحنُ صامتون، نكتفي بالكلام، نُصَحِّحُ به هذه الأرضَ الخطأَ التي لم تُخْلَقْ عَبَثَاً.. والحُبُّ أن نُرَمِّمَ فينا ما يَتَهَدَّمُ، أَوْ نَعْبُرَ الطريقَ بأمانٍ في عِنَاقِ الكُلِّ والأجزاء، أو... لِكُلٍّ تَأوِيلُهُ ولا حُبَّ عِنْدَ كَثِير.

بَيْنَنا سيدي تَزدَحِمُ الحياةُ وتَتجلَّى (سعيدةً كانتْ أَمْ حزينة).. بيننا ما يَجْعَلُ البَحْرَينِ يَلْتَقِيَانِ.. بيننا أُناسٌ لا يَعْرِفُونَنا وملائكةٌ يعرفوننا.. بيننا ما رأيناهُ دائماً ذاتاً واحدة.. وما نراهُ الآنَ يَدْعُو للسُّقوطِ مِنْ شُرفاتِ الحلمِ على صخورِ الخوفِ والقُنوط... تُهَدِّدُنا نملةٌ تَمُرُّ مِنْ إحدى الزّوايا... قِطّةٌ تبحثُ عن زادِها في الليلِ.. أشياءُ ليسَ لها أسماء.. تُهَدِّدُنا أجملُ اللحظاتِ وأعذبُ المفردات.

مِنْ غَيْهَبٍ إلى غيهبٍ يُلْقَى بِنَا.. والفِراقُ مُسْتَحِيل.. كُلّما تَوَحَّشتْ أسالِيبُنَا في التعبيرِ على عصافيرِ أقفاصِنَا المفتوحَةِ وخَلَّفَتْ جُرْحَاً في الصَّمِيمِ وسالَ دمُ الوِجْدَانِ على أديمِ الحُبِّ أَعْلَنَ الشاعرُ فينا يأسَهُ مِنْ خُصوبَةِ المعنى ورَحابَةِ اللغةِ وحَضَنَ الخَواءِ.. هل ثمَّةَ سبيلٌ لِلوصول؟.. هل مِنْ ثَمَرٍ في أَشجارِنَا الآتية؟.. وهل تَلاشَى النهارُ في الليلِ حقّاً؟.. أَمَا زالتْ حَواسُّنَا تَزْدَاد؟.. مَنْ نحنُ بينَ الفُصُول؟..

وأنا المُقَيَّدُ الأبديُّ بِرَغْمِ فَنائي الطويلِ.. في سبيلِ حُرّيَّتِي أسلمُ وجهي لِلْحَياةِ عَلَّهَا تَنْشُرُ النُّورَ مِنْ عُيُونِي لِتَرْحَل بي إلى أيِّ مَوطِنٍ للسلام.. لا بُدَّ مِنْ تَضْحِيَةٍ تَفْتَحُ على الرُّوحِ أبوابَ الجنائنِ.. لا بُدَّ مِنْ هِجْرَةٍ في تَفَاصِيْلِ الحَنين.. لا بدَّ مِنِ ابْتِكَارِ مُؤَكِّدَاتٍ جديدةٍ، فَمُؤَكِّداتُ الخَبَرِ جَمِيعُهَا غَيرُ كافيةٍ في لُغَةِ الحُبِّ.. وإِنْ تَوَقَّفَ النشيدُ فإنَّ ظَمَأَ العاشِقِ لن يَنْطَفِئِ.

يا الله!.. هل أكتبُ قصيدةَ الرَّحْمَةِ؟..هل أنتهي بينَ يديكَ طفلاً شريداً لم يَرَ مِنْ الحياةِ إلا أَقَلَّهَا.. أو أحْضُنُكَ فوقَ كلِّ الهُمُومِ وتسِيرُ بِي وقلبي يَتَدَحْرَجُ بينَ قَدَمَيّ؟.. وأينَ الذي كنتُ؟ أينَ الذي كنتَ؟ كمْ للسؤالِ لَظَاهُ الذي يصْدِمُ الوَجْهَ باللاهباتِ منَ الأُحْجِيَاتِ وَيتْرُكُهُ وَاجِماً شَارِدَا... وَهذيْ خُلاصَةُ ما يَعْتَرِيني وقدْ وَسَّدَتْني هُنَيْهَاتُ شِعْريْ على مَهْدِهَا.. دَافِئاً بَارِدَا.. لأغفو ولو حلماً بين يديكَ سيدي.

طَرِبْتُ لِمَا قُلْتَ: "اتركوهم.. لا تتأثروا بأخبارهم وتُحرقوا أعصابَكم".. كَموْجِ البحارِ تَراءَيْتَ لي فَاصْطَفيتُ مِنَ الدُّرِّ ما يَشْتَهيهِ الصُّحَاةُ لأَرْوَاحِهِمْ في زَمَانِ النّهايةِ وَالعَثَراتِ.. عَثرتُ على وَمْضَةٍ في شُعُوريْ فَأَلْقيتُ كُلَّ شِبَاكي عليها لأَعْرِفَ منكَ يا حسنَ الروح والحضور عنِّي الجَدِيدَ.. لَعلِّي أُوَفِّقُ بيني وبينَ الغَريبِ الذي كنتُ أَدَّعِيْهِ.. وَأَعْبُرُ هذا الفَراغَ امْتِلاءً بِبضْعِ قَصَائِدَ تُبْقي عَلَيَّ خَيَالاً يَطُوفُ معَ الأُمسياتِ يُجَسِّدُ أَشْهَى أَمَانيكَ.. يُزْجِي إليكَ الهَتُونَ مِنَ الحُبِّ.. يُبْدِي وَيُخْفِي.. وَيُمْعِنُ في سَعْيهِ جَاهِدَا..

أفتِّشُ عن الذي لم يُقلْ في أي كتاب.. عن مفردةٍ تليق برهبتكَ الربانية الملامح.. يَفيضُ المُحَالُ بِكُلِّ الجِهَاتِ وبيْ رغبةٌ لاقْتِحَامِ الغَرَقْ.. وما لي سِوى مركبٍ منْ حَبَقْ.. وبعضِ البنفسجِ والأُقْحُوانِ تَنَاثرَ في شُرُفَاتِ الأُفُقْ.. أُهَدِّئُ مِنْ عَتَباتِ انبهاريْ وَأنْفِرُ مِنِّيْ إلى سَهْلِ يديكَ حيثُ الحَمَائِمُ ليستْ تَنُوحُ.. وليستْ تَبُوحُ بِغَيرِ النَّدِيِّ مِنَ الهَمَساتِ.. وشَهْدُ الهديلِ يُؤَلِّفُ بيني وبينَ الخَلايا.. فَيُوحي إلينا بِعَزْفِ المَقَامِ المُلائِمِ في اللحْظَةِ الرَّاهِنَةْ.. وبَعْثِ النُّسَيْمةِ  تِلْوَ النُّسَيْمَةِ تُنْعِشُ في ذَبْذَبَاتِ التَّقَهْقُرِ أَعْصَابي الوَاهِنَةْ.. يَفيضُ المُحالُ وأَنْفِرُ مِنِّي فَأَغْرقُ في رِحْلَتي الفَاتِنَةْ..

لَقدْ أَخْبَرتْني القَصِيدَةُ في حين الانفجار الأخير.. أَنَّ انكساراً أَصابَ تَضَارِيسَها الفَاتِنَاتِ.. وأنَّ النُّعاسَ يُقَطِّعُ أَوْتَارَهَا عَامِدَا.. فَوَسَّدْتُ رُوحيْ على صَدْرِهَا وَانْتَبهْتُ مَلِيّاً لِصوتِكَ ذاتَ حفلٍ يُضَرِّجُ بِالدَّمْعِ وَجْهِيْ وَيَتْرُكُني وَاجِماً شَارِدَا...

ها أنا ذا لم أعد كما كنتُ.. سهلاً ممتنعاً.. عصياً على الفرحِ.. ها أنا اليومَ أمشي وتَصْحَبُنِي اليَمامَةُ.. والبَنَفْسَجَةُ الحَزِينَةُ والخريفُ وبُلْبُلُ العُشِّ الفَقِيرِ وغَيْمَةٌ تَتْلُوْ مَواجِعَهَا وحُبٌّ ليسَ يَرْحَمُهُ الشتاءْ.. فإذا فَتَحْتُ البابَ يَرْمُقُنِي بِنَظْرَةِ سحره وأرى ابْتِسَامَتَه تُضِيءُ ليَ الضِّيَاءْ.. ويَمُدُّ كَفَّيْهِ ليحْمِلَني من وجعي.. فَتَحْمِلُنَا السماءْ.. أنسَى رِفَاقَ الدَّرْبِ.. يَسْرِي بيْ مولاي.. وبالرُّوح.. مِنْ ألَمِيْ إلى حُلُمِيْ.. من غفلتي إلى يقظتي.. يسري بي نحو برزخ نقائهِ العُلْويِّ على فَرَسِ النَّقَاءْ..

اعلى الصفحة