اللوحة الأولى: هموم وحلول

السنةالثالثة عشر ـ العدد 146 ـ ( ربيع الثاني 1435 هـ) شباط ـ 2014 م)

بقلم: غسان عبد الله

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


الفهرس


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الاشراف على الموقع:
علي برو


للمراسلة

الإبداع والجدوى..؟؟

مثلُ هذا السؤال الذي يقول: ما جدوى الكتابة؟؟ أو ما الفائدةُ من الفن؟؟ يخطرُ كثيراً على البال، خصوصاً عند المبدعين عندما يرَوْنَ تضاؤلَ تأثيرِ أعمالهِم على الناس، وتراجعَ اهتمامِ الناسِ بما هو إبداعي.. وبكلِّ صراحةٍ.. علينا الانتباهُ إلى أن السؤالَ يأتي نتاجَ مللِ أو إرهاقِ المبدعِ وشعورِهِ بأنَّ ما يقدِّمَهُ ما عادَ يَفيدُ أحداً!!.. ومثلُ هذا الشعور ليس جديداً، وليس وليدَ الزمنِ الراهنِ، بل كان على الدوامِ ملاصقاً للفنِّ والفنانين المبدعين وكأنه جزءٌ لا يتجزَّأُ من تركيبةِ المبدعِ.. وطبيعيٌّ أن تكونَ الأجوبةُ كثيرةً متعددةً مليئةً بالألوان.. فكلُّ مبدعٍ ينظُرُ إلى المسألةِ من زاويتِهِ، ويعطي الإجابةَ انطلاقاً من وجهةِ نظرِهِ.. ومثلُ هذه الإجابة، من أيِّ مبدعٍ، تكون في كلِّ حينٍ وليدةَ الوقتِ الذي تُقالُ فيه، ونتاجَ شعورِ الكاتبِ في هذا الوقتِ تحديداً، ولا نستبعِدُ تأثيرَ نبضِ الزمنِ والمحيطِ والمتغيرات.. كلُّ شيءٍ يدخُلُ في الإجابةِ يشكِّلُ صورةَ ما تضعُ أمامنا تعريفاً أو توصيفاً لجدوى الكتابةِ والإبداعِ بشكل عام.. والخطأ أننا نأخذُ الإجابةَ مجردةً منعزلةً عن كل شيء، مع أن مثلَ هذه الإجاباتِ ترتبطُ ارتباطاً وثيقاً بكثيرٍ من المعطياتِ بعضُها ما ذكَرْتُه آنفاً، وبعضُها يأتي مضافاً من أجواءَ كثيرةٍ متعددة... فهل علي في مثل هذه الافتتاحيةِ أن أضعَ إجابةً أو ما يشبِهُ الإجابةَ، وقد أوردتُ ما أوردت؟؟..‏

من الضروريِّ بدايةً طرحُ السؤالِ بصيغةِ: هل نستطيعُ متابعةَ الحياةِ دون أي نوعٍ من أنواعِ الإبداع؟؟.. هل تكونُ الحياةُ كما نريدُ لها أن تكونَ بمعزلٍ عن كلِّ فنٍّ من الفنون؟؟.. وهل حاولنا في يومٍ من الأيامِ النظرَ إلى الأشياءِ المحيطةِ بنا وإلى حياتنا التي نعيشُ بعيداً عن السيرِ مع كل ما هو إبداعي؟؟.. باعتقادي من هنا تبدأُ الإجابةُ، ومن هنا علينا أن ننطلقَ لنتحدَّثَ عن ضرورةِ الفنِّ أو عن لا جدواه.. وكلما تعمقنا أكثرَ وصلنا إلى محدِّداتٍ أكثرَ سطوعاً.. وطبيعيٌّ أن النظرَ يجب أن يكون شاملاً عميقاً مداخِلاً لصُلْبِ الأشياءِ.. علينا أن نجرِّدَ الحياةَ تماماً من الفن والإبداع وندرسَ الحالةَ على هذا الأساس..!!.. والتجريدُ المطلقُ يعني ملاصقةً حقيقيةً لطبيعةِ كلِّ شيءٍ دون اقترابِهِ من جوِّ الإبداع.. أي أننا نحتاجُ إلى تثبيتِ العدَسَةِ على واقعٍ معزولٍ عن الإبداع والفنِّ والكتابة.. في مثل هذا الجوِّ نبدأُ في دراسةِ سؤالنا المطروحِ أولاً، أي هل هناك ضرورةٌ للفن، وهل نحن بحاجةٍ للكتابةِ والرسمِ وما إلى ذلك، وما الجدوى من كل ما نقومُ به من إبداع؟؟..‏

عند الوقوفِ على هذه الأشياءِ بعمقٍ، سنجِدُ أن روحَنا تسقُطُ مباشرةً في اليباس والبرودةِ والرتابةِ القاتلة.. سيكون كلُّ ما يحيطُ بنا دون معنى.. سنجِدُ في كل ما ننظرُ إليه نوعاً من الانغلاقِ والمَواتْ.. ذلك أن الحياةَ في كلِّ سيرورتِها إبداعٌ متطورٌ لا يتوقَّفُ عند حدٍّ، ومع تطوُّرِ الإنسانِ يكونُ تطوُّرُ الفنِّ والإبداع. والضرورةُ نابعةٌ من كونِ الذاتِ البشريةِ لا تحيا بعيداً عن الفن والإبداع، ذلك أن العقلَ البشريَّ مرتبطٌ بالإبداعِ، ولولا الإبداعُ بكلِّ معانيه، لما تطور أيُّ شيءٍ في الحياةِ ممّا نجِدُهُ الآنَ مرافقاً لنا بشكلٍ عاديٍّ وطبيعي.. لقد تعوَّدنا على وجودِ الجماليات في حياتنا، ولم نفكِّرْ بفقدانِ كلِّ شيءٍ وحالِنا في مثل هذا الفقدان!!.. من هنا كان الفنُّ ضرورةً مع بدء الحياة، وضرورةً مع استمرارها، وضرورةً مع تطوُّرِها، وضرورةً حتّى تكونَ الأشياءُ أحلى وأجملَ وأكثرَ روعةً...‏

الكتابةُ جزءٌ من الإبداع، كذلك الرسمُ والموسيقى، والمخترعاتُ وتطوُّرُ التقانةِ.. كلُّ هذا إبداعٌ.. وإذا كان الإنسانُ بحاجةٍ إلى الإبداعِ كونُهُ الأكثرَ ميلاً إلى طَلَبِ الحيويةِ والحياةِ في كلِّ شيء، وكونُهُ صاحبَ فكرٍ قبل أيِّ شيءٍ آخر.. فإنَّ موجوداتِ الحياةِ كلَّها بحاجةٍ إلى الإبداع.. الطبيعةُ إبداعٌ.. حياةُ الحيواناتِ بكلِّ أنواعِها مليئةٌ بالإبداع.. وأيُّ فصلٍ أو انتقاصٍ أو تقليلٍ من كمِّ الفنِّ والإبداعِ يعني تشويهاً في الحياة، ومحاولةً لإنقاصِ ما فيها من جمال..‏

أنتَ تكتُبُ لأنكَ بحاجةٍ للكتابة، ولأنك تملِكُ موهبةَ الكتابةِ، ولأنك قادرٌ على ابتكارِ ما هو جديدٌ في الحياة.. والآخرُ يقرأُ لأنه بحاجةٍ للقراءة، وإذا لم يكن قادراً على القراءةِ بَحَثَ عمَّن يقرأُ له، أو انتظرَ أن تتحولَ الكتابةُ إلى صورةٍ ينقُلُها التلفازُ، أو حركةٍ يستطيعُ أن يفهمها من خلال الممثلين على خشبةِ المسرح.. المهم في البدايةِ والنهايةِ أنه بحاجةٍ إلى هذه الكلمةِ لأن حياتَهُ مرتبطةٌ بشكلٍ ما بها، ولأن حياتَهُ تشترِطُ أن تكونَ مرتبطةً بهذه الكلمة.. فالكتابةُ جزءٌ منكَ ومن المتلقي معاً.. وحين نظنُّ بأنه لا جدوى من الكتابة، نبتعِدُ كثيراً عن الحقيقةِ، لأن الكتابةَ مرتبطةٌ بجمالياتِ الحياةِ وبحركتها وحيويتها... فأنت بحاجةٍ للكتابةِ لأنك مسكونٌ بها، وكذلك المتلقي.. وتعدُّدُ الكتَّابِ يعني تعدُّدَ مستوياتِ التلقي، فإذا لم يقْرَأْكَ هذا لا بد أن يقرَأَكَ سواه.. وإذا توقَّفْتَ عن الكتابةِ وصرَخْتَ أنَّ شيئاً لم يحدُثْ فلأنَّ سواك ما زال يكتب، أي أن سواكَ ما زال يُعطي ويُوجِدُ هذا الإشباعَ الذي يحتاجُهُ الإنسانُ كما تحتاجُهُ الحياة.

ويبقى أن الفنَّ ضرورةٌ للإنسانِ وللحياةِ، وضرورةٌ للاستمرارية، وضرورةٌ للتطور وللشعور بجمالِ كل شيء..‏

اعلى الصفحة