المقاومة والشرعية الدينية

السنةالثالثة عشر ـ العدد 146 ـ ( ربيع الثاني 1435 هـ) شباط ـ 2014 م)

بقلم: الشيخ محمد شقير

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

إن سؤال المشروعية هو سؤال فلسفي ـ ديني بامتياز، وتتأكد أهميته حين يتعلق الأمر بموضوع غاية في الأهمية كموضوع المقاومة ومواجهة الاحتلال. قد يبدو للوهلة الأولى أن سؤال المشروعية والدينية تحديداً في موضوع المقاومة، هو أقرب إلى الترف الفكري منه إلى العمل العلمي الجاد، لكن معاينة أكثر من جدل فكري ديني حول موضوع المقاومة، وخصوصاً في تجاربها المعاصرة....

تظهر أن ما قد يبدو بديهياً في النظرة الأولى لن يبقى كذلك، عندما يصل المقام إلى بيان الأدلة ونقاشاتها ومواجهة سيل الإشكالات التي تطرح، ليس فقط على أصل الفكرة، وإنما أيضاً على القدرة على تسييلها، ما يؤدي - فيما لو سلمنا بتلك الإشكالات أو بعضها - إلى إفراغ فكرة المقاومة ومشروعيتها من محتواها، مما يحيلها إلى مجرد فكرة غير قادرة على إنتاج فعل مقاوم، يمكن البناء عليه على أكثر من مستوى اجتماعي وسياسي، فضلاً عن مستوياته الأخرى العسكرية وغيرها.

هذا ولن يكون أمراً سهلاً مقاربة مفهوم معاصر يمتلك لغته وسماته، التي قد تختلف في العديد من مفرداتها عن اللغة الدينية ومصطلحاتها، حيث قد لا نجد في النصوص الدينية ذات الصلة مفردة "مقاومة" بما تحمله من دلالة معاصرة، وهو ما يتطلب العثور على رديفها في القاموس الاصطلاحي الديني والإسلامي تحديداً، لنجد أنها تقارب إلى حد المطابقة مفهوم الجهاد في بعده الدفاعي والجمعي حصراً، أي أنه عندما يكون الحديث عن المقاومة، فهذا يعني أننا نتحدث في الجهاد الدفاعي في صيغته الجمعية، التي تتصل بالعلاقة بين الأمم والجماعات والأوطان المختلفة.

وعليه فإن الحديث في المشروعية الدينية للمقاومة، يقودنا إلى الحديث في المشروعية الدينية للجهاد الدفاعي في بعده العام، في أدلته الدينية من خلال المصادر الإسلامية الأساس أي القرآن والسنة، ومعالجة أهم الإشكاليات التي ترد على ذلك النوع من الجهاد، ولكن ذلك يتطلب منا بداية الحديث في مفهوم الجهاد وأهدافه، قبل الولوج في أدلته ومناقشات تلك الأدلة.

1- مفهوم الجهاد: يبدو أن المراد بالجهاد هو بذل الجهد والمشقة في قول أو فعل، أعم من أن يكون هذا الفعل في الإطار العسكري أو غيره، حيث لم تحصره العديد من مصادر اللغة العربية التي بينت المراد من مفردة الجهاد في إطار دون آخر .

 نعم يتعين مورد الجهاد هل هو في إطار النفس أو المال أو الكلمة أو التربية وغيرها بحسب متعلق الجهاد، ليتحدد بالتالي أنه جهاد عسكري أم تربوي أم دعوتي أو غير ذلك؛ فقد ترد النصوص الدينية متضمنة الجهاد بالنفس والمال، يقول تعالى ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ  تَعلَمون﴾ فهو جهاد قتال في سبيل الله تعالى.

وقد ترد تلك النصوص متضمنة جهاد المشركين بالقرآن الكريم، يقول تعالى: ﴿وجاهدهم به جهاداً كبيراً﴾ فالله تعالى يطلب من رسوله الكريم أن يجاهد المشركين بالقرآن الكريم، فهو جهاد دعوة إلى الله تعالى، وجهاد تفنيد لعقائدهم الباطلة.

وقد ترد النصوص الدينية متضمنة لمعنى جهاد النفس ـ وليس بالنفس ـ كما ورد عن رسول الله عندما خاطب سرية عادت من غزوة لها، فقال(ص): "مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر. فقيل يا رسول الله: ما الجهاد الأكبر؟ قال جهاد النفس"، وهو الجهاد التربوي، الذي يهدف إلى تزكية النفس، وتحليتها بالأخلاق الحسنة، وتطهيرها من الأخلاق السيئة.

كما هناك جهاد في إطار الاجتماع الأسري في علاقة المرأة بزوجها، لما يتطلبه هذا المورد من المرأة من بذل جهد خاص للوصول إلى حياة سعيدة وعلاقة زوجية مستقيمة، حيث ورد عن رسول الله (ص): "جهاد المرأة حسن التبعل".

وكذلك أيضاً في الاجتماع العام، حيث يتطلب الأمر الحذر من مخالفة الحكمة، وإعمال المداراة وعدم الخوض في أمور تؤدي إلى إغراء الأعداء بالنيل من المؤمنين، وهو من موارد التقية، حيث ورد عن الإمام الصادق(ع):" ...والمؤمن مجاهد، لأنه يجاهد أعداء الله تعالى في دولة الباطل بالتقية، وفي دولة الحق بالسيف ".

وعليه فإن مفهوم الجهاد هو ذو موارد متعددة عسكرية وتربوية ودعوية واجتماعية، وأيضاً إعلامية وتنموية واقتصادية وسياسية وغيرها ، فكل مورد يتطلب بذل الجهد والمشقة يعد العمل فيه جهاداً، وأن كان تحديد مصاديق الجهاد في الإطار الديني مرتبط بدلالة النص الإسلامي،  وليس دلالة معاجم اللغة.

نعم الجهاد العسكري هو من أبرز مصاديق الجهاد ومن أهمها رتبة، وهو ما دلت عليه نصوص دينية كثيرة ، لكن أهمية هذا المصداق أو ذاك، لا ينبغي أن تؤدي إلى حبس مفهوم الجهاد في مصداق بعينه، والحؤول دون شموله لبقية المصاديق ذات الصلة.

وينبغي الالتفات هنا إلى أن تحديد أي مصداق من مصاديق الجهاد يتطلب تحديد العديد من مشخصاته، وهي: من أجاهد؟ بماذا أجاهد؟ ومن اجل من؟ سؤال من أجاهد مرتبط بالطرف الذي يقع عليه فعل الجهاد (النفس، المشركون، البغاة..)، وسؤال بماذا أجاهد، مرتبط بوسيلة الجهاد (القرآن الكريم، العلم، التنمية، التزكية، المقاومة..)، وسؤال من اجل مَن، مرتبط بهدف الجهاد، وفي سبيل من هو؟ هل هو في سبيل الله تعالى أم لا؟

انه لا يمكن الحديث عن أي مصداق من مصاديق الجهاد دون تحديد  تلك المشخصات؛ ولا يصح مقاربة موضوعاته دون التباس، إذا لم نفصح عن كافة المتعلقات التي تبين في أي جهاد يقع الكلام.

ولا بد من الالتفات إلى أن ما يميّز الجهاد بمعناه الديني والإسلامي تحديداً، هو كونه في سبيل الله تعالى، أي إن هدفه الأسمى هو الله تعالى، كما أن منطلقه هو الله تعالى، بمعنى أن تحديد مفهومه ومصاديقه وكل الأحكام المرتبطة به رهن النص الإسلامي ودلالته. وعليه يمكن الوصول إلى ما يلي:

أولاً: إن مفهوم الجهاد يعني كل ما من شأنه بذل الجهد والمشقة في أمر أو آخر.

ثانياً: إن هذا المفهوم عام يشمل موارد مختلفة عسكرية، وتربوية، ودعوية، واجتماعية وغيرها.

ثالثاً: إن تحديد مصداق الجهاد بشكل أساس يرتبط بتحديد أمرين، الأول الجهاد بماذا، وثانياً جهاد من؟ الجهاد بماذا، يرتبط بوسيلة الجهاد؛ وجهاد من، يرتبط بالطرف الذي يقع عليه فعل الجهاد.

رابعاً: يضاف إلى النقطة السابقة السؤال التالي: من أجل مَنْ؟ أي في أي سبيل؟ وهو ما يرتبط بالقصد وعالم النوايا، حيث أن الجهاد في الرؤية الإسلامية هو فقط وفقط في سبيل الله تعالى.

خامساً: إن اختزال مفهوم الجهاد في بعده العسكري أدّى إلى إيجاد أكثر من عَوَر في رؤية العديد من الجماعات الإسلامية، فضلاً عن الإضرار بمشروعها العام من حيث القدرة على إيجاد التوازن بين مجالاته، أو مراعاة الأولويات، أو الاستجابة لمتطلبات المرحلة واحتياجات الواقع.

سادساً: إن رتبة أي مصداق من مصاديق الجهاد رهن لدلالة النصوص الدينية، التي تجعل من هذا المصداق أو ذاك في هذه الرتبة أو تلك.

سابعاً: إن الجهاد الدفاعي وتحديداً في إطاره الجمعي، هو من أهم مصاديق الجهاد ومن أفضلها رتبة، كما دلت عليه نصوص دينية عديدة.

2- أهداف الجهاد: هنا الحديث في أهداف الجهاد القتالي بحسب ما يفهم من القرآن الكريم، حيث وردت آيات عديدة تتحدث في الأهداف الأساسية للقتال. يقول الله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، هنا تحدثت الآية في عناوين ثلاثة: الفتنة والدين والظلم، فالقتال هو لتحقيق أمرين؛ الأول: حتى لا تكون فتنة، والثاني: ليكون الدين لله؛ والمراد بالفتنة هنا تلك العوامل المختلفة التي تجعل عموم الناس يفتنون ويصرفون عن دين لله تعالى، أي هناك من يعمل على إعاقة الناس عن الوصول إلى دين الله تعالى؛ فالقتال يهدف إلى إزالة تلك العوامل والعوائق التي تمنع الناس من تلمس دين الله تعالى، والتي تحول دون وصولهم إلى حقيقة الدين الإلهي.

أما قوله تعالى: ﴿ويكون الدين لله﴾ فمعناه أن تكون الأطروحة الفكرية، التي يرتكز عليها الاجتماع الإنساني هي الأطروحة الإلهية، بما تحمله من قيم سامية، وبعد معنوي، وقدرة على صناعة إنسانية الإنسان، بما يجعل العلاقات الإنسانية في مختلف مجالات الاجتماع الإنساني علاقات قائمة على أساس العدل وبعيدة عن الظلم.

ولعل قضية الظلم هي المبرر الأساس لفعل القتال، ويدل على ذلك العديد من الآيات القرآنية، التي تتحدث في أهداف القتال ومبرراته، حيث تستحضر تلك الآيات مفهوم الظلم، يقول الله تعالى: "فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين" كما يقول تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾، وأيضاً قوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً﴾ حيث يظهر من الآية الأولى أن العدوان أو القتال موجه فقط نحو الظالمين، في حين توضح الآية الثانية أن مبرر القتال هو الظلم الذي وقع على تلك الفئة المؤمنة، وهو ما أجاز لهم المبادرة آنئذٍ إلى القتال. أما الآية الثالثة فتبين أن الظلم الذي يتعرض له المستضعفون هو من الأسباب التي تدعو إلى القتال في سبيل الله تعالى.

وليست الموارد الأخرى التي تحدث فيها القرآن الكريم مجيزاً للقتال إلا من باب أنها من مصاديق الظلم، يقول تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾، حيث إن الاعتداء هو من أبرز مصاديق الظلم، وهو ما يبرر بالتالي معاملتهم بالمثل، والمبادرة إلى قتالهم، إذا ما كان اعتداؤهم اعتداء قتال وحرابة.

وقد يطرح سؤال حول العلاقة ما بين أن يكون الدين لله وانتفاء الظلم، كما يبدو من الآية الكريمة؛ والجواب أن يكون الدين لله يعني أن منظومة من القيم الأخلاقية وغير الأخلاقية التي ترتكز على مفهوم العدل، هي التي تؤسس للعلاقات الإنسانية في الاجتماع الإنساني، مما يجعلها (أي تلك العلاقات) أقرب إلى العدل وأبعد عن الظلم، في حين إن مجافاة دين الله، سوف يفقد ذلك الاجتماع الإنساني تلك المنظومة المرتكزة على العدل وإعماله، مما يؤدي إلى جنوح تلك المجتمعات نحو الظلم، وقيام علاقات مجتمعية ظالمة في مختلف مجالات الحياة الإنسانية.

لذا يوجد انسجام تام بين اعتبار أن الظلم هو المعيار الأساس الذي يبرر فعل القتال، وبين موارد أخرى ذكرها القرآن الكريم. حيث ينبغي النظر إليها من باب كونها من مصاديق الظلم، التي تبرر اللجوء إلى القتال من اجل العمل على استئصاله ورفعه.

أما ذلك النقاش الذي احتدم بين الفقهاء سابقاً - وما زالت ارتداداته إلى الآن - أن سبب القتال هل هو الكفر أم الحرابة، فقد يكون من الصحيح النظر إليه من حيث المعيار الأساس الذي بيّنه القرآن الكريم وهو الظلم، لتكون الحرابة من مصاديق ذلك الظلم، بما هي اعتداء قتالي يستوجب دفعه والرد عليه. أما الكفر فمتى ما كانت متعلقاته وتعبيراته الاجتماعية تؤدي إلى الظلم، فهو ما يستوجب المبادرة إلى مواجهته من باب كونه ظلماً لا غير.

وبناءً على ما تقدم سوف يكون واضحاً الموقف الديني من قضية المقاومة، فإذا كانت المقاومة فعل دفع للاحتلال وتحريراً للأرض والفكر والإرادة، فإنها تصبح والحال هذا من أبرز مصاديق مواجهة الظلم ودفعه، لأن الاحتلال الذي قد يتعرض له شعب من الشعوب هو من أبشع مظاهر الظلم قديماً وحديثاً. وهو ما يبرر لذلك الشعب أن يستثمر جميع إمكانياته لتحرير أرضه وإنسانه وثرواته فضلاً عن فكره وقراره وإرادته.

3- أدلة الجهاد: وهنا الكلام في أدلة الجهاد الدفاعي، أي المقاومة، عندما تتعرض أمة ما، أو مجتمع ما إلى اعتداء من احتلال أو غيره، فعندها ما هو المبرر الشرعي للدفاع والمقاومة؟!.

ومع أن الحديث في أهداف هذا الجهاد ليس منفصلاً عن أدلته، حيث انه عندما ننظر إلى موضوع الجهاد باعتبار الغايات التي يَطمح إلى تحقيقها، يُعنون البحث بالأهداف، أما عندما ننظر إليه باعتبار دلالته على مشروعية دينية ما، فيُعنون بالأدلة، لكن إفراد بحث لأهداف الجهاد، إنما هو لتبيان مقاصده العليا، وما يمكن أن يترتب على محصلة هذا البحث من نتائج، على أكثر من مستوى فكري واجتماعي وسياسي وغيره.

أما فيما يرتبط بأدلة الجهاد، فلا بد من القول إنه توجد العديد من الأدلة القرآنية والروائية التي تتحدث في فضل الجهاد القتالي، والقتال في سبيل الله تعالى، وأجره وثوابه، والآثار التي تترتب عليه، والتي يمكن أن يستفاد منها للاستدلال على المشروعية الدينية للقتال الدفاعي (المقاومة)، باعتبار كونه من أبرز مصاديق الجهاد القتالي، والقتال في سبيل الله تعالى، وهو صحيح، وان كنا سوف نعرض هنا لأهم الأدلة، وأشدها وضوحاً والتصاقاً بموضوع المقاومة تحديداً، بما هي دفاع عن الأرض والإنسان والسيادة وكرامة الأمم والأوطان. أما أهم تلك الأدلة التي وردت في القرآن الكريم فهي ما يلي:

أ‌- يقول الله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.

من الواضح في هذه الآية الكريمة أن الله تعالى يأمر بقتال الذين يقاتلون المسلمين والمؤمنين، ثم يعطف الحديث مباشرة إلى النهي عن الاعتداء، مما يشعر أن قتال الذين لم يبادروا إلى قتال المسلمين والمؤمنين هو من الاعتداء الذي نهى عنه القرآن الكريم. ولذلك فإن من يبادر إلى قتال المؤمنين والاعتداء عليهم سواء بالاحتلال أم بغيره، فإن الواجب بحسب ظاهر الآية الكريمة هو قتاله، إذ أن الاحتلال وتحديداً في إطاره العسكري لا يخلو من فعل مبادرة إلى القتال، ولذلك سيكون أمراً واجباً مقابلته بالقتال الذي بادر إليه أولاً.

ب‌- يقول الله تعالى: ﴿أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾. في هذه الآية الكريمة يحض الله تعالى المؤمنين على قتال أولئك القوم، لأنهم نكثوا إيمانهم (عهودهم) وبادروا إلى إخراج الرسول. وهم بدءوا بالقتال أولاً، وإلا فإنهم لو لم يبادروا إلى القتال والعدوان لما كان مطلوباً قتالهم.

وبما أن الاحتلال هو من يبادر إلى الاعتداء، وهو من يبدأ أول مرة، فإن الواجب مواجهته بالقتال والمقاومة، وسيكون عندها مصداقاً للآية الكريمة، ومورداً للحض على مقابلته بما بدأ به أولاً.

ج- يقول تعالى:﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾

يبدو من هذه الآية الكريمة وبقرينة المقابلة في قوله تعالى(كما)، أن الأمر بقتال المشركين كافة، إنما كان بسبب قتالهم المؤمنين كافة، أي أنه لولا مبادرة المشركين إلى قتال المؤمنين، لما توجه الأمر إلى المؤمنين بقتال المشركين. وعليه، فإن الاحتلال بما يتضمنه من عدوان وقتال للمجتمعات المؤمنة، يستوجب أن يرد عليه بالمثل، أي بالقتال والجهاد الدفاعي، بما يعني وجوب المبادرة إلى فعل المقاومة، عندما يكون هناك احتلال، أو عدوان بهدف الاحتلال.

د- يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (*) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ﴾. حيث أن الآية الكريمة تفيد بحصول الإذن بالقتال، لما حصل بحق المؤمنين من ظلم بقتالهم وإخراجهم من ديارهم بغير حق. ولذا عندما يكون هناك احتلال بما يتضمنه من عدوان وظلم، يكون من المشروع لمن يقع عليه ذلك العدوان والاحتلال أن يبادر إلى مواجهته بالمقاومة.

هـ- جاء في الكتاب العزيز قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾.

إن ما يفهم من الآية الكريمة، أن من يبادر إلى الاعتداء سواء من خلال الاحتلال أم غيره، فيجب أن يرد عليه بمثل الفعل الذي بادر إليه، وهذا يعني أن من يمارس العدوان والاحتلال، يجب أن يرد عليه بالقتال والمقاومة، بما يرتكز عليه هذا الفعل من مبدأ المعاملة بالمثل، والرد على القتال بقتال مثله. ومما يمكن أن يدل أيضاً على مشروعية الدفاع قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا﴾. وقد عرضنا لهذين الآيتين سابقاً.

أما فيما يرتبط بالروايات الواردة عن رسول الله(ص) وأهل بيته(ع)، فنعرض إلى جملة من تلك الروايات ذات الصلة بالموضوع. جاء عن رسول الله(ص): "إن الله ليمقت العبد يُدخل عليه بيته فلا يقاتل".. وعن الإمام الصادق أنه قال: قال رسول الله(ص): "من قتل دون مظلمته فهو شهيد".. وفي رواية أخرى ينقل "أبو مريم" عن الإمام الباقر(ع) انه قال:" قال رسول الله (ص): "من قتل دون مظلمته فهو شهيد" ثم قال (أي الإمام الباقر(ع)): يا أبا مريم، هل تدري ما دون مظلمته؟ قلت (أي أبو مريم): جعلت فداك، الرجل يقتل دون أهله ودون ماله وأشباه ذلك. فقال(أي الإمام الباقر(ع)): يا أبا مريم إن من الفقه عرفان الحق ".

إن هذه الروايات تدعو إلى القتال دون البيت والمظلمة والأهل والمال وأشباه ذلك، أي هي تدعو إلى القتال والدفاع دون الأرض والأوطان والسيادة والاستقلال والكرامة وسوى ذلك، لأنه ليس معنى القتال دون البيت أن ينتظر كل منّا العدو حتى يصل إلى بيته فيقاتله، بل هي بمعنى قتال الاحتلال ومواجهة الاعتداء، سواء كان هذا الاعتداء على البيت أم القرية أم الوطن وغيره. بل يمكن أن يقال انه إن كان الاعتداء على البيت يستوجب القتال والدفاع، فمن باب أولى أنه يستوجبه أيضاً في حال الاعتداء على الأرض والوطن.

وكذلك الأمر التعبير الوارد في الرواية، الذي يدعو إلى القتال دون الأهل والمال وأشباه ذلك، فليس المعنى الحقيقي للدفاع عن الأهل هو الاقتصار في الدفاع على الزوجة والأولاد فقط أو ما يشمل الرحم القريبة، بل هو يشمل أيضاً أهل قريته وأهل منطقته وأهل وطنه وأمته، وخصوصاً عندما نعضد هذا المعنى بكثير من النصوص التي تتحدث عن الجماعة المؤمنة كوحدة واحدة لها حقوقها وواجباتها، فضلاً عن النصوص القرآنية ذات الصلة. والكلام نفسه فيما يرتبط بالمال، إذ أن المراد من التعبير الوارد في الرواية لا يقتصر فقط على المال الشخصي لكل فرد، بل يشمل أيضاً المال العام والممتلكات العامة التي هي ملك للدولة والشعب.

وعليه بما إن العدوان والاحتلال سوف يصيب الشعب وأهل الوطن والممتلكات العامة وغيرها، فهو يستوجب الدفاع عنها، ومواجهة ذاك الاحتلال بكافة السبل التي تؤدي إلى دفعه، وإلى حماية الوطن والأهل والكرامة.

ولا بد من الالتفات إلى أنه ومن الواضح في رواية أبي مريم حرص الإمام الباقر(ع) على تفسير المظلمة لصاحبه، حيث ينبغي الإشارة إلى أمور:

أولاً: إن المعنى ينسجم تماماً مع النصوص القرآنية التي تجعل من الظلم مبرراً للقتال والحرابة.

ثانياً: إن عنوان المظلمة يستوعب مصاديق عديدة ذكرت الرواية جملة منها، لا على نحو الحصر.

ثالثاً: مما يدل على أن الرواية لم تقفل المعنى على المصاديق التي ذكرت في الرواية، هو أرداف المصاديق المذكورة بتعبير (وأشباه ذلك)، ما يلفت إلى وجود مصاديق أخرى يمكن أن تدخل تحت المفهوم.

رابعاً: إن مراد الرواية لا يقتصر على المصاديق الفردية المذكورة فيها، ولو سلمنا الاقتصار، سيكون من باب أولى شمول مفهوم المظلمة للمصاديق الجمعية التي تشمل مختلف الأفراد ومتعلقاتهم، أي هي تشمل الوطن بأسره والمال العام وعموم الشعب وغير ذلك.

5- الخاتمة: يتبين من جميع ما تقدم الأمور التالية:

1- إن قضية الجهاد الدفاعي (المقاومة) كانت محل اهتمام شديد من قبل النصوص الدينية الإسلامية، وتالياً من قبل علماء المسلمين ومفكريهم.

2- إن مسألة المشروعية الدينية للمقاومة هي من المسائل الواضحة والمحسومة في الموقف الديني والإسلامي تحديداً، بمعنى أن قوة الأدلة الدينية ووضوح دلالتها لا تترك كثير مجال للجدل العلمي في الموضوع.

3- بمقدار تتبعنا ـ سواء ما عرضناه في مطاوي البحث وغيره ـ لا يوجد أحد من علماء المسلمين ومفكريهم خالف في قضية المشروعية الدينية للمقاومة والجهاد الدفاعي.

4- صحيح أن جملة من الإشكاليات أثيرت حول مشروعية الفعل المقاوم وجدوائيته، لكن يمكن القول إن مجمل تلك الإشكاليات لم يصمد أمام المنطق الديني وأدلته، والخلاصات التي أفضت إليها التجربة الميدانية للمقاومة ومشروعيتها.

5- بمقدار ما يمكن أن تكون قضية المشروعية الدينية للمقاومة ذات أهمية كبيرة على مستوى الوعي الإسلامي والاجتماع العام، بمقدار ما ينبغي الالتفات إلى أن الأهم من ذلك، هو كيفية استثمار تلك المشروعية على مستوى إعادة تشكيل الوعي الإسلامي، بحيث يصبح أكثر حصانة أمام أساليب مختلفة من الاحتلال، تتجاوز احتلال الأرض إلى احتلال الوعي والإرادة والقرار، وهو اشد خطورة من الاحتلال التقليدي، لأنه ـ أي ذاك الاحتلال ـ هو احتلال شامل للبشر قبل الحجر، ثم هو احتلال مقنّع، يستطيع أن يمارس ضروباً مختلفة من الخداع والاحتيال، وهو اشد خطورة، لأنه أكثر عمقاً وتجذراً، فإن كان تطهير الأرض يحتاج إلى جهد أو آخر، فإن تطهير الوعي والإرادة يحتاج إلى جهود مضنية وعمل غير قليل.

إن هذا النوع من الاحتلال هو الذي يعاني منه واقعنا الإسلامي اليوم، لان الاستعمار استطاع إيهامنا انه قد خرج من أرضنا، لكنه في واقع الحال ما زال يسكن في وعينا، ويقيم في فكرنا، ويحتل اقتصادنا وثرواتنا، ويصادر قرارنا السياسي، ويهيمن على مؤسساتنا وسيادتنا، ويتدخل في جميع شؤوننا، ويستغل هيمنته تلك لزرع الفتن والحروب بين مكونات أوطاننا من سنة وشيعة، عرب وكرد، مسلمين ومسيحيين.. حتى تبقى له الكلمة العليا، واليد الطولى في ربوعنا وبلادنا؛ ولذلك يجب أن تنصب جميع الجهود على مقاومة هذه الأنواع الخطيرة من الاحتلال وأهدافه ومشاريعه.

اعلى الصفحة