الضفة الفلسطينية.. انتفاضة ثالثة أم مقاومة شعبية؟!

السنة الرابعة عشر ـ العدد 156 ـ (صفر 1436 هـ) كانون أول ـ 2014 م)

بقلم: ازدهار معتوق(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

في لقائه مع طلاب الجامعات الإيرانية يوم الأربعاء 23 تموز/ يوليو 2014، قال المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران السيد علي الخامنئي إنه يجب تسليح المقاومة في الضفة الغربية أيضا وعلى المدافعين عن فلسطين أن يعملوا لتحقيق ذلك وينشطوا لكي يخففوا من عذاب الفلسطينيين من خلال تقويتهم.

 السيد الخامنئي أضاف أن "الجرائم الإسرائيلية تفوق التصور. ماهية وحقيقة هذا الكيان أنه كالذئاب يقتل الأطفال وعلاجه الوحيد إزالته وتدميره. وحتى يتحقق ذلك يجب دعم المقاومة المسلحة الفلسطينية وتوسعتها لتشمل الضفة الغربية كحل وحيد لمواجهة هذا الكيان المتوحش". وفي هذا الإطار قال السيد الخامنئي إن "الدفاع الوقح والدعم الغربي والأمريكي لجرائم الصهيونية يجب أن يؤثر على معرفتنا ونظرتنا للغرب ولنعرف أن الحقيقة الأمريكية هي هذه في حين أن الشعب الإيراني سيثبت في يوم القدس أنه ينصر المظلوم على أعدائه".

وفي معرض حديثه استشهد المرشد الأعلى بكلمات الإمام الراحل السيد الخميني في قوله إن "إسرائيل يجب أن تزول" وقال: "طبعاً زوال إسرائيل بصفته العلاج الوحيد والحقيقي لا يعني قتل اليهود والشعب اليهودي وإنما السبيل لحل هذا الأمر هو أن ينتخب الناس الذين يريدون الحياة في هذه المنطقة في استفتاء عام الحكومة ونظام الحكم الذي يرغبون به، وبهذه الطريقة يزول كيان الاحتلال".

السيد الخامنئي نصح بأن "لا يتوقعنّ أحد أن يتراجع كيان الاحتلال الصهيوني لولا صواريخ المقاومة.. الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية لا يمتلك أسلحة وصواريخ وسلاحه الوحيد هو الحجر لذلك يعتدي عليه ويحقّر. الاحتلال لا يقبل حتى من يبحث عن تسوية معه ولا يتراجع إلا إذا رد عليه الفلسطينيون بشدة. الكيان الغاصب الذي ارتكب كافة الجرائم أُجبر على البحث عن حل بعد ردّ المقاومة الذي تلقاه، وهذا يثبت أن الصهاينة لا يفهمون إلا لغة القوة، ولهذا نحن نعتقد أنه يجب تسليح الضفة الغربية أيضاً وعلى المدافعين عن فلسطين أن يعملوا لتحقيق ذلك وينشطوا في هذا السياق لكي يخففوا من عذاب الفلسطينيين من خلال تقويتهم وإضعاف الصهاينة".

ما هي الضفة الغربية؟

في 1948 احتلت الجماعات الصهيونية كل فلسطين باستثناء منطقتين سميتا فيما بعد بالضفة الغربية وقطاع غزة.

الضفة الغربية هي أراضٍ فلسطينية تقع غرب نهر الأردن وقد احتلها العدو الصهيوني عام 1967. وتشكل 21% من مساحة فلسطين التاريخية (عندما نقول فلسطين التاريخية فإننا نقصد الأراضي من نهر الأردن إلى البحر المتوسط).  

لا يوجد شيء اسمه الضفة الشرقية في فلسطين. ولكن يمكن القول (إلا أنها نادرة الاستخدام) إن الضفة الشرقية (أي شرقي نهر الأردن) هي المملكة الأردنية الهاشمية.

وفي إحصاءات 2008: بلغ عدد فلسطيني الضفة الغربية: 2.4 مليون فلسطيني. بينما عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية: نصف مليون. نصفهم في محافظة القدس. وبلغ عدد مستوطنات الضفة الغربية 144 مستوطنة وبلغ عدد البؤر الاستيطانية والمواقع العسكرية اليهودية 296.

من أهم مدن الضفة الغربية:

القدس: عاصمة فلسطين وفيها المدينة القديمة والمسجد الأقصى المبارك.

جنين: بلد الشهداء. ولها تاريخ في الكفاح المسلح. وتقع قريبة من الخط الأخضر.

نابلس: وهي العاصمة الاقتصادية لفلسطين وهي أكبر المدن الفلسطينية.

طولكرم: مدينة العنب وهي أقرب نقطة إلى الخط الأخضر.

رام الله: تضم معظم مكاتب السلطة الوطنية الفلسطينية ومقر الرئيس الفلسطيني. وتعتبر العاصمة الثقافية.

أريحا: أقدم مدن البشرية وأول مدينة أصبحت تحت الحكم الفلسطيني بعد اتفاقية أوسلو.

بيت لحم: مكان ميلاد السيد المسيح عليه السلام. وفيها كنيسة المهد.

الخليل: وفيها الحرم الإبراهيمي. وهي مدينة مزدحمة.

قلقيلية: تقع قريبة من الخط الأخضر.

في عام 1948 احتل العدو الصهيوني 78% من أرض فلسطين ودخلت دولة الاحتلال في الأمم المتحدة عام 1949. على الرغم من أن الكثير استشهد أو طرد إلا أنه ما زال يشكل الفلسطينيون ما نسبته 20% من إجمالي عدد سكان أراضي 1948 المحتلة ما يسمى بإسرائيل. وهؤلاء يسمون بـ عرب 1948 أو عرب الداخل.

في عام 1967 احتل جيش الاحتلال باقي فلسطين الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان وسيناء. على الرغم من أن الكثير استشهد أو طرد إلا أنه الكثير أيضاً من الفلسطينيين ظل يعيش في هذه البقاع حتى اللحظة (عدد الفلسطينيين في الضفة الغربية 2.5 مليون - 2009). ولكنهم يعيشون تحت الإدارة وتحكم دولة الاحتلال.

إحصاءات 2007 كأمثلة على احتلال الضفة الغربية: عدد المستوطنات اليهودية 144. عدد القواعد العسكرية المنتشرة في الأراضي المحتلة: أكثر من 210 قاعدة. عدد الحواجز العسكرية الإسرائيلية  576حاجز. بينما بلغ عدد المنازل الفلسطينية التي دمرها الاحتلال منذ اندلاع انتفاضة الأقصى في العام 2000: 4500  منزل. وعدد المنازل الفلسطينية التي دمرها الاحتلال منذ 1967 أكثر من 14500 منزل. عدد الأشجار التي اقتلعتها الجرافات الإسرائيلية منذ اندلاع انتفاضة الأقصى في العام 2000 حتى العام 2007 مليون ونصف المليون شجرة.

أما عن جدار الفصل العنصري فهو حاجز طويل يبنيه العدو الصهيوني في الضفة الغربية قرب الخط الأخضر بحجة حماية دولة الاحتلال ومواطنيها ومستوطناتها من المجاهدين المتسللين.

يتشكل هذا الحاجز من سياجات وطرق دوريات، وفي المناطق المأهولة بكثافة مثل منطقة المثلث أو منطقة القدس تم نصب أسوار بدلاً من السياجات. بدأ بناء الجدار عام  2002 في عهد حكومة شارون في ظل انتفاضة الأقصى التي اندلعت سنة 2000. وفي نهاية عام 2006 بلغ طوله 402 كم من أصل 700 كم مخطط بناؤه.

يمر الجدار بمسار متعرج حيث يحيط معظم أراضي الضفة الغربية، وفي أماكن معينة، مثل قلقيلية، يشكل معازل، أي مدينة أو مجموعة بلدات محاطة من كل أطرافها تقريبا بالجدار.

ما زال مشروع بناء الجدار قيد التنفيذ حتى الآن ومخططاته قيد التعديل المستمر. إلا أنه بسبب حرب تموز عام 2006 وحرب غزة عام  2008-2009 وتحويل الميزانية من الجدار إلى الحروب بالإضافة إلى أن الهجمات الجهادية من الضفة إلى أراضي 48 قلت، كل هذا أدى إلى الفتور في تكملة بنائه.

ويتكون الجدار من 14 مقطع يعزل 64 تجمعاً فلسطينياً يقطنها أكثر من 107 ألف فلسطيني. ويضم 107 مستوطنات إسرائيلية يقطنها قرابة الـ 400 ألف مستوطن إسرائيلي. أما من الناحية القانونية للجدار فقد أصدرت محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة عام 2004 رأياً استشارياً يقضي بعدم شرعية الجدار الفاصل.

صوّت 150 بلداً عضواً في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، من ضمنهم جميع دول الاتحاد الأوروبي الخمسة والعشرين حينها، لصالح القرار بعدم شرعية الجدار بينما عارضته 6 دول تتقدمها الولايات المتحدة ودولة الاحتلال.

 يجدر بالذكر أن قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة مثل قرار محكمة العدل الدولية غير ملزم لدولة الاحتلال.

من نتائجه التخريبية: تم تدمير أكثر من 35 ألف متر من أنابيب شبكة الري الرئيسة للزراعة، وتجريف 10 آلاف دونم زراعي، وتم اقتلاع 83 آلاف شجرة زيتون من الرومي والمعمر وأشجار الحمضيات.

أكثر المناطق المتضررة من حيث مساحة الأراضي المصادرة والمجرفة، محافظة طولكرم. وفقدت محافظة قلقيلية 72 % من أراضيها الزراعية المروية.

من خلال بناء الجدار يسعى الكيان الصهيوني إلى إعلان حدودها الشرقية مع الضفة الغربية المحتلة وذلك باقتطاع حوالي 13% من مساحة الضفة الغربية بادعاء أن المنطقة المذكورة فيها أغلبية سكانية صهيونية.

 إن ما تقوم به دولة الاحتلال هو أشبه بالتلاعب السكاني في المناطق المعزولة حيث تسعى إلى تهجير الفلسطينيين طوعياً من المناطق المعزولة وتعزيز التواجد الصهيوني هناك.

بداية انتفاضة ثالثة!

أمام الممارسات العنصرية الإسرائيلية في القدس والاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى كان لا بدّ للمقدسيين أن يتحركوا ولو بأساليب بدائية وفق الظروف المتاحة لهم للتصدي للاحتلال. عمليات دهس وطعن في القدس وتل أبيب والضفة الغربية في إطار المقاومة الشعبية، شهدتها الأيام الماضية في مشهد يرى المراقبون أن رقعته ستتسع ممهدة لانتفاضة جديدة على الرغم من التحديات الكثيرة.

كان إبراهيم، الرجل المقدسي الثلاثيني يتابع عبر التلفاز مشاهد اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى. هو المشهد نفسه يتكرر مجدداً. المستوطنون يدنّسون المكان بحماية قوات الاحتلال فيما يُمنع الفلسطينيون من دخوله. هذه المرة كانت الأكثر استفزازاً، الاحتلال أغلق المسجد بالكامل لأول مرة منذ احتلاله القدس عام 1967 على خلفية محاولة اغتيال يهودا غليك، الحاخام المتطرف الذي دأب على تنظيم الاقتحامات المتكررة للأقصى.

لم ينتظر إبراهيم طويلاً، كان يدرك أن المشهد مستمر وفق التالي: ممارسات إسرائيلية عنصرية لا تنتهي، مصادرة منازل وأراضٍ لم تبقِ للفلسطينيين من القدس سوى 13%، تقسيم المسجد الأقصى مكانياً وزمانياً كما حصل للحرم الإبراهيمي في الخليل، اعتقالات يومية، انسداد الأفق السياسي وفشل الرهان على المفاوضات، وصمت عربي لم تنجح الدعوات والنداءات المتكررة لنصرة الأقصى والقدس من اختراقه..

غادر إبراهيم المنزل مسرعاً.. لحظات وتوالت الأخبار العاجلة في أسفل الشاشة: فلسطيني من القدس يدهس عدداً من المستوطنين.. مقتل جندي وإصابة 13 آخرين.. استشهاد الفلسطيني الذي دهس المستوطنين برصاص الاحتلال.. بطل عملية الدهس في القدس يدعى الشهيد إبراهيم العكاري..

ما هي إلا ساعات قليلة حتى نفذت عملية دهس أخرى لجنود إسرائيليين، هذه المرة في الخليل، ما هي إلا أيام قليلة حتى نفذت عمليتا طعن قتلت خلالهما مستوطنة وجندي وجرح آخرون في تل أبيب وغوش عتسيون. استنفرت إسرائيل. سارعت إلى الإعلان جهاراً عن أنها لا تنوي إجراء تغيير على الوضع القائم في القدس. تداعى أعضاء الكابينيت للاجتماع، القرار اتخذ بتدمير منازل "المخربين". الجيش الإسرائيلي عزز قواته في الضفة الغربية وكثف من حواجزه وقرر تعميق الجهد الاستخباراتي...  

يبدأ المشهد بالتغيّر. ينتقل سريعاً إلى الأراضي المحتلة عام 48 من خلال تظاهرات ومواجهات في أكثر من قرية وبلدة. تتسع دائرة المنخرطين في هذه المقاومة الشعبية بشكل مطّرد. وفق إحصائيات أخيرة فإن 83% من سكان القدس المحتلة يقاطعون المنتوجات الإسرائيلية والمؤسسات والمراكز التجارية الإسرائيلية. لم يعد الحديث عن مبادرات فردية فقط بل عن قطاعات جماهيرية وطلابية تحاول تنظيم ذاتها.

تسترجع الذاكرة الجماعية الفلسطينية مرحلة الانتفاضة الأولى عام 1987 يوم كان السلاح حجراً رمى بالإسرائيلي على طاولة مفاوضات لم يكن يريدها سوى لإجهاض هذه الانتفاضة. لم يعد الحديث عن انتفاضة ثالثة مبالغاً به، أحد أعضاء الكنيست قالها بوضوح "علينا تسمية الصبي باسمه.. ما نعيشه اليوم هو انتفاضة ثالثة". انتفاضة بطلتها "المقاومة الشعبية". أساليبها سيارة وسكين ومنجنيق وتظاهرات عند حواجز الاحتلال ومقاطعة البضائع الإسرائيلية. 

يستعيد عضو المجلس الوطني الفلسطيني صلاح صلاح التأثير الذي أحدثته انتفاضة الحجارة ليؤكد على أهمية المقاومة الشعبية التي تشهدها القدس وبعض مناطق الضفة وأراضي 48، على اعتبار "أنه تجب مواجهة العدو الإسرائيلي بكافة أشكال النضال وفق الظروف التي يعيشها كل تجمع من تجمعات الشعب الفلسطيني". فالظروف القائمة في غزة التي تتيح للمواجهة أن تأخذ بعداً عسكرياً مسلحاً ليست نفسها في الأراضي المحتلة عام 48 أو القدس حيث الاحتلال جاثم على الفلسطيني، أو في الضفة الغربية حيث تبرز إشكالية أخرى عنوانها "التنسيق الأمني".  

يرى صلاح أنه "يكفي الشعور بعدم الأمان الذي يحدثه هذا النوع من المقاومة لدى الإسرائيلي الذي يعيش اليوم كابوس أن تدهسه سيارة أو أن يتلقى طعنة سكين في  لحظة ما". يتحدث عن ردع من نوع آخر لا مكان فيه لمنظومات القبة الحديدية ومثيلاتها، حيث يقول الفلسطيني للإسرائيلي اليوم "إن حالة القلق والرعب انتقلت إلى ضفته من خلال أساليب بدائية".

في معرض قراءته لآفاق هذه المقاومة الشعبية، يجزم صلاح صلاح أن ما يجري اليوم مختلف عن المرات السابقة حيث كان يقتصر الأمر على بعض ردود الفعل المحدودة والمؤقتة. يؤكد أن "ما يجري اليوم هو مؤشر على انتفاضة جديدة ستتسع رقعتها" بما يؤكد للإسرائيلي "أن محاولاته التي بدأها قبل 66 عاماً لأسرلة الشعب الفلسطيني وعزله عن قضيته لم تنجح" وبما "يوجه صفعة للقيادات الفلسطينية التي كانت تحاول أن تكرس أن الشعب الفلسطيني هو في مناطق الضفة وغزة متجاهلة القدس وأراضي 48 وقضية اللاجئين، من خلال التأكيد على أن الشعب الفلسطيني واحد في الضفة وغزة والقدس والشتات لا يمكن تجزئته أو فصله، وأن ارتباطه بقضيته الوطنية وأرضه أبدي وأزلي".

وعلى الرغم من التشابه بين انتفاضة الحجارة وما يجري اليوم إلا أن ثمة قطعة "بازل" لا تزال ناقصة ليتطابق المشهدان. "فبعد قرابة الشهرين أو الثلاثة على اندلاع الانتفاضة عام 1987 لحقت بها قيادات الفصائل الفلسطينية في الوطن المحتل، يقول الباحث الفلسطيني دكتور غسان عبد الله. يشير إلى أن الكرة الآن في ملعب هذه القيادات التي عليها التقاط هذه الهبّة الجماهيرية من أجل دفعها إلى الأمام وتصويبها والأخذ بيدها لما فيه مصلحة المقاومة الشعبية وإلا فستجد نفسها في مؤخرة الصف خصوصاً أن قيادة منظمة التحرير بحاجة لإثبات وجودها على الساحة الفلسطينية لنيل الدعم الشعبي المطلوب لتحركاتها الدبلوماسية في أروقة الأمم المتحدة".

تحد آخر لا يقل أهمية يبدو ماثلاً أمام هذه المقاومة الشعبية، انتقالها إلى مرحلة الانتفاضة يربطه البعض باتساع رقعتها إلى الضفة الغربية حيث يبرز "التنسيق الأمني" كأحد أبرز المعوقات وفق ما يقول عبد الله الذي يصف ما يجري في الضفة بأنه "عملية إحكام السيطرة لمنع أي تحركات نوعية ضد المستوطنين وممارسات الاحتلال". يضاف إلى ذلك الانقسام الفلسطيني المستمر والذي من شأنه إضعاف هذه التحركات الشعبية.

أمام هذه التحديات ينقسم المراقبون للمشهد الفلسطيني بين من يقول إنها قد تساهم في إجهاض الانتفاضة قبل أن تولد وبين من هم أكثر تفاؤلاً بالمنحى الذي قرر المقدسيون السير فيه. في هذا السياق يقول عبد الله "إن ما يجري من هبّة شعبية في القدس غير قابل لحالات الجزر بل على العكس، هو قابل لحالات المد أكثر وأكثر لاسيما وأن ممارسات الاحتلال تتزايد يوما بعد يوم"، مؤكداً "أن المقدسي بغض النظر أكان مسلماً أو مسيحياً وبمعزل عن انتمائه الفكري لن يسمح بعد الآن بمواصلة اجراءات الاقتحام وتدنيس الأقصى".

نتحدث هنا عن مرحلة جديدة إذاً، ما بعدها لن يكون كما قبلها حتى على صعيد المفاوضات في حال استؤنفت. يجزم الدكتور غسان عبد الله "أن نمط المفاوضات الذي كان قائماً قد ولّى وليست لديه أية أرضية أو دعم جماهيري أو حتى سياسي. وما سنشهده في الساحة الفلسطينية هو عودة مزاوجة العمل السياسي والمقاومة الشعبية التي ستزداد رقعتها في الضفة الغربية متخذة أشكالاً وأنماطاً مختلفة" على حد قوله.

في منطقة شمال غرب القدس عند جدار الفصل العنصري ابتدع الشباب الفلسطينيون مؤخراً أسلوباً جديداً في المقاومة الشعبية.. يدأبون منذ أيام على فتح ثغرات في ذاك الجدار، يسدها الاحتلال، ثم يعودون لفتحها مجدداً.. من يدري ربما لكثرة تكرار هذا الفعل يتصدع الجدار ويسقط يوماً.. ففي قلوب هؤلاء من الإيمان والعزيمة ما يجعلهم متيقنين أن هذا الاحتلال يمكن مواجهته بشتى الوسائل، حتى لو بمعول.

المقاومة كخيار استراتيجي

دائماً كانت المقاومة الشعبية تشكل المقدمة الموضوعية لنشأة حالات مسلحة من أشكال المواجهة مع الاحتلال، وكانت الأداة الأكثر تكراراً على أرض فلسطين في وجه الاحتلال المباشر. تدفع مجموعة عوامل موضوعية نحو تعزيز المقاومة الشعبية كخيار في الضفة الغربية، من بينها الثورات العربية، ووصول التسوية السياسية إلى نهاية جديدة، وحرب غزة 2014 والمفارقة التي رافقتها بين غزة والضفة، واعتداءات المستوطنين والتهويد المتواصل للقدس وحالة المواجهة فيها وأسباب أخرى.

في الوقت عينه تعمل أسباب موضوعية أخرى على تثبيطها مثل العقلية السياسية للقيادة الفلسطينية الحالية، والتنسيق الأمني، ومشروع التخدير الاقتصادي، والانقسام السياسي.

في ظلّ ذلك تلوح ثلاثة سيناريوهات محتملة: أن تترجم القوى الموضوعية الدافعة إلى مقاومة شعبية شاملة، أو تواصل الوضع الحالي، أو إعادة إطلاق مرحلة جديدة من المفاوضات وتمديد المشروع الاقتصادي يعني سنوات أخرى من الهدوء في الضفة.

لقد شكلت المقاومة الشعبية جزءاً أساسياً من أدوات المشروع الوطني الفلسطيني منذ المراحل المبكرة لمقاومته للاحتلال البريطاني سنة 1920 في انتفاضة موسم النبي موسى، وثورة البراق 1929، والثورة الفلسطينية الكبرى وبالذات في مرحلتها الأولى 1936-1937، وكانت حاضرة كأداة مركزية في محطات المقاومة الأقرب زمنياً؛ في الانتفاضة الفلسطينية الكبرى سنة 1987 أو في هبة النفق 1996 وصولاً إلى بدايات انتفاضة الأقصى سنة 2000.

لذلك فإن هناك ضرورة إبقاء روح المقاومة حية ومتقدة في نفوس الفلسطينيين. ضرورة إحراج الاحتلال دولياً، والعمل على تشويش وإرباك مخططات التهويد والاستيطان؛ فكل يوم يمر دون فعل كفاحي فلسطيني يُنقص قدرة الفلسطينيين على مواجهة مخططات وإجراءات وجرائم الاحتلال، ويجعل مهمتهم في كبح التوغل الإسرائيلي على الأرض والمقدسات أكثر صعوبة.

الخروج من مأزق تناقض البرامج والأجندات الفصائلية، عبر التوافق على برنامج عملي لمواجهة الاحتلال يلقى تأييداً وتجاوبًا من الجميع، ويضمن قبول ومشاركة الفصائل الفلسطينية دون استثناء.

وقد حققت المقاومة الشعبية الآن، وفي ظل ما يجري، الكثير من الإنجازات على صعيد مقاومة الاحتلال والتصدي لجدار الفصل العنصري في نعلين، وبلعين، وقرية النبي صالح، والمعصرة، وكفر قدوم، وغيرها من القرى والأماكن الفلسطينية؛ فسطرت هذه المقاومة الكثير من الإبداعات، وفرضت نفسها على عناوين الصحافة العالمية، وعززت الرأي العام العالمي ضد شراسة الاستيطان الاستعماري الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخطورته على تحقيق السلام وإقامة الدولة الفلسطينية.

وفي خطوة جديدة ومبدعة، ابتكرت المقاومة الشعبية طرقًا جديدة، وأساليب عديدة في مواجهة الاحتلال ونهجه القائم على العنف والقتل؛ فقد أظهرت إقامة قرية "باب الشمس" التي لم يطل عمرها عن 48 ساعة، براعات وابتكارات المقاومة الشعبية السلمية المشرقة ضد الاحتلال الإسرائيلي لمنع تنفيذ مخطط احتلالي يقضي ببناء 4 ألاف وحدة استيطانية استعمارية في منطقة "E1" هدفه عزل مدينة القدس عن محيطها الفلسطيني وفصل شمال الضفة عن جنوبها ولإفشال حل الدولتين على أساس حدود 1967م أسطورة غير مسبوقة، ورمزية جديدة وحقيقية في المقاومة الشعبية السلمية في مواجهة الاحتلال؛ فقد تسابقت وكالات الأنباء العربية والعالمية في عناوينها لإبراز القرية كأول تجمع سكاني مهدد بالتدمير والمصادرة بعد ساعات على إقامتها. وقد أظهرت هذه الخطوة شجاعة المقاومين الذين اختاروا المكان المناسب لإقامتها؛ فأقاموها على مشارف أراضي القدس المحتلة المهددة بالمصادرة؛ ما شكل ضوءاً يظهر حجم المعاناة التي يلقاها شعبنا الفلسطيني جراء النهج الاحتلالي الإسرائيلي القائم على سرقة الأرض وابتلاعها. قد دقت هذه المحاولة ناقوساً نبه العديد من الضمائر في العالم، وهدد الدعاية الإسرائيلية التي تدّعي التحضر والديمقراطية؛ فقد أراد هؤلاء المقاومين المبدعين المدججين بسلاح الإرادة والصبر، تحت البرد القارس، والذي لم يسبق له مثيل في العشر سنوات الأخيرة، أن يقولوا لدولة الاحتلال: إننا نستطيع الرد عليكم بأسلوبنا الحضاري، ولا نخاف تهديدكم وبطش قوتكم العسكرية؛ وأن "باب الشمس" ولدت لتعزز الحق الفلسطيني في إقامة دولته وعاصمته القدس. لقد أزعجت قرية باب الشمس دولة الاحتلال كثيراً؛ ولهذا أرادت إسرائيل أن تقضي على هذا النموذج؛ لكن سرعان ما أبصرت النور قرية جديدة أخرى وهي "باب الكرامة" وهي تقع شمال غربي القدس، قرب قرية بيت إكسا؛ وهي أيضاً أراضٍ مهددة بالمصادرة لصالح بناء جدار الفصل العنصري.

بهذا قدمت المقاومة الشعبية السلمية، ومن خلال رمزية وبراعة إقامة قرية "باب الشمس" دليلاً قوياً للمواطن الفلسطيني يظهر أن الاستمرار في مقاومة الاحتلال بطريقة سلمية وبأقل الخسائر، يشكل إزعاجاً وتحدياً كبيراً لقواته وللمستوطنين الغاصبين؛ ما يدفع الشباب الفلسطيني إلى كل تلة محيطة لإقامة باب شمس جديدة عليها.

ومن أساليب المقاومة الشعبية المقاطعة الاقتصادية للاحتلال، التي تعدّ خطوة تدق مساميرها في نعش الاحتلال دون عنف؛ فالشعب الذي يريد مقاومة عدوه مقاومة مستمرة وجادة يبدأ أولًا بالمقاطعة الاقتصادية التي تلحق ضررًا باقتصاد الاحتلال الغاصب، أو تحول دون إفادة العدو اقتصادياً من أموال ومقدرات ضحيته؛ وتشجع المنتج المحلي الذي يعتبر أحد أركان استمرار المقاومة؛ ما يحتم ضرورة نشر الوعي الوطني الذي يرسخ المسؤولية الفردية والجماعية لدى أبنا هذا الشعب المنكوب؛ لتغليب القيم الوطنية على القيم الاستهلاكية، والتي تتوارى معها مبررات شراء المنتج الصهيوني.

وهكذا تشكل المقاومة الشعبية أداة تحظى بالقبول والشرعية السياسية، ويمكن لها أن تحقق الانتشار وتتغلب على حالة التنسيق الأمني المخابراتي، وينبغي أن تكون أحد الخيارات الأساسية لأصحاب إستراتيجية المقاومة من خلال إعادة تركيز الخطاب على المشروع الوطني الفلسطيني وعلى التحرر كهدف نهائي له، وإعادة تقييم الأدوات والخطابات السياسية بناء عليه، بعيداً عن مثيرات "العصبية" الفصائلية. ودعم المقاومة الشعبية (دونما إغفال لحصة المقاومة المسلحة) باعتبارها قابلة للانتشار الشعبي ولا تتطلب عملاً تنظيمياً مغلقاً ومعقداً، واستعادة أشكال العصيان المدني ورفض التجاوب مع الاحتلال في الجغرافيا المتصلة تماماً به في القدس ومناطق "ج" على الأقل.

باحثة في علم الاجتماع السياسي(*) 

اعلى الصفحة