"عمليات المقاومة الفردية".. الدوافع والملامح!!

السنة الرابعة عشر ـ العدد 160 ـ (حمادى الثانية 1436 هـ) نيسان ـ 2015 م)

بقلم: عدنان أبو ناصر

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

في ظل حالة التراجع التي تشهدها المقاومة المسلَّحة المنظَّمة ضد الاحتلال الصهيوني نتيجة عوامل عدة؛ أبرزها التشديدات الصهيونية، وجدار الفصل العنصري، واعتقالاتٍ للمقاومين، ومطارداتٍ لهم، واتفاقية "أوسلو"؛ تشهد "عمليات المقاومة الفردية" حالة تصاعد كبيرة وواضحة وعامة، شملت القدس المحتلة، وأراضي 48، إضافة إلى الضفة الغربية، وتنوعت في وسائلها وأسلحتها.

لا يكاد ما يمر أسبوعٌ حتى نسمع من هنا أو من هناك عن حالة مقاومةٍ فرديةٍ؛ فمن جرافة في القدس يقودها شاب، مروراً بفتاةٍ في بئر السبع، ووصولاً إلى فأسٍ في الخليل، ثم العودة إلى القدس عبر سيارة. حالاتُ مقاومةٍ فرديةٍ شاملةٌ جغرافيّاً، ومتنوعةٌ وسيلةً، أحيت فكرة "المقاوم المنفرد"، وأوجدت قلقاً واضطراباً بالغَيْن لكيان الاحتلال ومؤسساته السياسية والعسكرية والإعلامية.

فلماذا تزايدت معدلات "عمليات المقاومة الفردية" هذه الأيام؟ وماذا تعني هذه العمليات ذات النتائج المحدودة للفلسطينيين وللاحتلال؟ وهل يمكن للاحتلال مقاومتها أو الحد منها؟ ما مستقبل هذه العمليات؟ هل هذه العمليات الفردية بديلٌ عن عمليات حركات المقاومة؟ هل يمكن لحركات المقاومة استثمار هذه العمليات وتوظيفها والاستفادة من روح المقاومة فيها؟

مجموعة تساؤلات طرحتها حالة التصاعد الواضح في إيقاع "عمليات المقاومة الفردية"، نحاول هنا الإجابة عليها ولو بشيءٍ من الاختصار؛ نظرًا لاحتياجها كلها إلى تفصيلٍ وشرحٍ وبيانٍ.

تزايد "عمليات المقاومة الفردية"

للإجابة على سؤالٍ حول أسباب تزايد معدلات هذه العمليات الفردية وتصاعدها يجب توضيح الحالة الفلسطينية عموماً؛ إذ هي التي أوجدت هذا التصاعد ودعمته. وتشير الحالة الفلسطينية إلى التالي:

1- أن المقاومة الفلسطينية ترزح تحت نير قمعٍ شديدٍ، وحصارٍ خانقٍ بسبب كل العوامل الخانقة المحيطة بها، من اتفاقياتٍ ومؤتمراتٍ دوليةٍ لإجهاضها وممارساتٍ اعتقاليةٍ ومطارداتٍ للمقاومين من قِبل الاحتلال من جهة، ومن قِبل أجهزة سلطة رام الله من جهة أخرى، إضافة إلى جدار العزل الذي حاصرها وجعل اختراقه مهمة غاية في الصعوبة، وطعنات تأتي من الصديق قبل العدو.

2- اشتداد حملة تهويد القدس وتغيير وجهها المشرق بسواد الاحتلال وظلامه، وتعرُّض المسجد الأقصى المبارك لمحاولات هدمٍ والحفريات تحته لبناء هيكل الصهاينة المزعوم؛ مما سبب حالة ضغطٍ إسلامية ووطنية أوجدت هبَّةً لإنقاذه، وتحركًا لمنع تهجير المقدسيين من أراضيهم ومنازلهم، ووقف كل ممارسات الاحتلال بحقهم. كما يعاني المقدسيون من البطالة، وسحب الهويات، والضرائب الباهظة، والتفريق في المعاملة، والتهميش، وغير ذلك من صور القمع.

3- معاناة قطاع غزة المستمرَّة من الحصار المفروض عليه، ومن حرب الـ22 يوماً الجائرة، والتي خلَّفت شهداء وجرحى تجاوزوا ستة آلاف، وأحدثت دماراً في البنية التحتية يحتاج مئات الملايين من الدولارات لإعادته كما كان، وزاد الحصار الجائر المفروض على القطاع منذ ثلاث سنوات من قسوة المعاناة وعمق المأساة. يضاف إلى كل ذلك الحالة الاقتصادية المتدهورة في القطاع؛ حيث المصانع مدمَّرة، وفرص العمل شبه معدومة، وعملية إعادة الإعمار تكاد تكون متوقفة.

4- ليس حال الضفة الغربية بأحسن من سابقتيها؛ فهي تعيش بين مصادرة الأراضي وحصار الجدار العنصري وبناء المستوطنات واعتداء المغتصِبين واستفزازاتهم المستمرة، إضافةً إلى ملاحقات أجهزة السلطة الأمنية لفلسطينيِّي الضفة واعتقالاتها المستمرة، ومحاولاتها إجهاض روح المقاومة بين المواطنين.

5- يُضاف إلى كل ذلك انعدام الأمل في أي انفراجٍ سياسيٍّ بسبب ممارسات حكومة الاحتلال الرافضة للسلام، وتعزَّز هذا الانعدام بوصول اليمين إلى رئاسة الحكومة، وبتصريحات رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير خارجيته أفيغدور ليبرمان.

كل هذه العوامل أوصلت الفلسطينيين إلى قناعةٍ تؤكد أن الطريق الوحيد للتعامل مع الاحتلال هو طريق القوة والمقاومة، وهو ما تُرجِم على أرض الواقع عبر تزايد عمليات المقاومة التي يقوم بها أفرادٌ بإرادتهم لا وفق انتماءاتهم الحركية أو بتوجيهات من قياداتهم التنظيمية.

مما لا شك فيه أن "عمليات المقاومة الفردية" هي عملياتٌ محدودة التأثير في مقاومة المحتل، ونتائجها المادية ليست بالقدر الذي كانت تحققه العمليات المنظمة، رغم ذلك فإنها تعني الكثير على المستويين الفلسطيني والصهيوني.

فعلى المستوى الفلسطيني فإن "عمليات المقاومة الفردية" تعني:

1- قدرة الشعب الفلسطيني على مواجهة الاحتلال بأبسط السبل الممكنة والوسائل المتاحة؛ فهي تستخدم منطق "الممكن والمتاح" في تعاملها مع الاحتلال، وهو منطقٌ قديمٌ استخدمته معظم حركات التحرر في العالم.

فقد استخدم "المهاتما غاندي" منطق الممكن والمتاح حين دعا إلى مقاطعة المنتجات الإنجليزية، ومارس الاعتصام الصامت. ومارسه حزب المؤتمر الوطني الأفريقي بزعامة "نيلسون مانديلا" ضد سياسات التمييز العنصري في جنوب أفريقيا. كما مارسته العديد من حركات التحرر في العالم..

وهذا الممكن المتاح لدى الفلسطينيين تمثَّل حتى الآن في سكينٍ وفأسٍ وسيارةٍ وجرَّافةٍ، ولا يعلم أحدٌ إلا الله تعالى ما يمكن أن يهتديَ إليه فكر المقاوم الفلسطيني من أدواتٍ في المستقبل. كما يتميز منطق "الممكن والمتاح" هذا بسهولة محاكاة هذه العمليات؛ فالأدوات المستخدمة مما يتوفر في أيدي معظم الفلسطينيين؛ ما يعني إمكانية استخدامها مرةً واثنتين وثلاثاً بنفس الطريقة.

2- عدم اقتصار المقاومة على التنظيمات والحركات، وإنما تجاوز أفراد الشعب ذلك فقاوموا بأنفسهم بعيدًا عن حسابات الحركات والتنظيمات وغاياتها.

3- بث روح الأمل في نفوس الفلسطينيين وطرد اليأس من قلوبهم، وإثبات إرادة الفعل لدى هذا الشعب مهما كانت الضغوطات، ومهما بلغت المعاناة، فهو شعبٌ حيٌّ مهما حدث، ومقاومة الاحتلال مستمرة حتى يأذن الله تعالى باندحار هذا المحتل، مهما كلَّف الأمر من خسائر، وبصرف النظر عن كون من سيجني ثمرة الانتصار، سواء كانوا أبناء الشهداء أو أحفادهم أو ربما أبعد من ذلك.

أما في جانب المحتل سواء كان مغتصِباً أو حكومةً؛ فإن "عمليات المقاومة الفردية" تعني:

1- تشكيل معضلةٍ أمنيةٍ كبيرةٍ لأجهزة المحتل الأمنية؛ لأن أجهزة مخابراته غير قادرة على رصد هذه العمليات أو كشفها بشكلٍ مسبقٍ، أو حتى توقع حدوثها، كما كان الحال في عددٍ من عمليات المقاومة التي كانت تُحبَط قبل وقوعها نتيجة الاختراق الأمني، أو سوء التخطيط أو التنفيذ. أما هذه العمليات فهي في الغالب تبقى في فكر منفِّذها فقط، وربما تكون وليدة اللحظة أو الحدث؛ فلا اختراقٌ أمنيٌّ يقدر على رصدها، ولا أجهزة رصد تستطيع كشفها أو إحباطها.

2- إثبات ضعف الأجهزة الأمنية وعجزها عن الوقوف أمام هذه العمليات؛ الأمر الذي حدا بأيهود أولمرت رئيس وزراء الاحتلال السابق إلى الاعتراف بأنه ليس هناك طريقٌ سهلٌ لمنع "العمليات الانتحارية".

3- إيجاد حالة من الرعب داخل مجتمع الصهاينة، وإشعارهم أن الخطر محدقٌ بهم في كل لحظة؛ فلا أمان ولا اطمئنان ولا راحة.

وهو ما أكدته وسائل الإعلام الصهيونية؛ إذ نقلت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية عن الكاتب الصهيوني "أليكس فيشمان" سخطه لفشل قوات الاحتلال في ما سمَّاه "ردع" مثل هذه العمليات، وقال: "عملية ناجحة ستجر وراءها مزيدًا من العمليات الناجحة وغيرها من العمليات، إلى أن يصبح هذا التواصل تهديدًا وجوديًّا.. الناس سيخافون السير في الشوارع، مثلما حصل ذات مرة، عندما خافوا الصعود إلى الباصات". كما ذكرت صحيفة "هاآرتس" أن "الأحداث الأخيرة تطرح تخوفًا من أن الضفة الغربية و"إسرائيل" لم تعودا آمنتين للـ"مستوطنين" الإسرائيليين". وهذا ما حدا بالأجهزة الأمنية الصهيونية إلى تكثيف وجودها وتشديد إجراءاتها، محاولةً وقف مثل هذه العمليات قدر المستطاع، واصفةً إياه بأنه "التصعيد الطارئ على النشاط الإرهابي".

رقم صعب في مواجهة الجرائم

شكلت عمليات "المقاومة الفردية"، رقماً صعباً في مواجهة جرائم الاحتلال الصهيوني ومغتصبيه، وهاجساً مخيفاً لدى القادة الصهاينة، حيث يفشل الاحتلال دائماً في توقعها أو الحد منها نظراً لعدم اتخاذها الشكل المتعارف عليها من المقاومة سواء اجتماعات أو تنسيق وخلافه والتي من الممكن إحباطها.

فالوجوه الجديدة لشباب المقاومة لا يألفها الاحتلال، ولا تستطيع أجهزته الأمنية رصد همسات أو أحاديث منفذي العمليات الذين يحمل كل بيت في الضفة واحداً متوقعاً منهم، والذين لا هم لهم سوى الثأر من الاحتلال لجرائمه في تدنيس الأقصى وتهويد الضفة المحتلة، فيفاجئون الاحتلال باستهداف جنوده ومستوطنيه بما أمكنهم من إمكانات بسيطة تكشف عن تصاعد روح التضحية والثبات لديهم.

منفذو عمليات المقاومة يسقطون المطرقة فوق رؤوس قادة أجهزة الأمن الصهيونية فليس بالإمكان رصد خططهم البعيدة عن كل وسائل التكنولوجيا أو العمل المنظم  أو حتى التنبؤ بسلوكهم الآتي على حين غرّة من ثغرة أمنية تمنحهم فرصةً للنجاح وامتلاك زمام المفاجأة.

وقتل 7 مغتصبين وأصيب 13 آخرون بجراح في عملية إطلاق نار وطعن نفذها مجاهدان  فلسطينيان داخل إحدى الكنس اليهودية بمدينة القدس المحتلة، وذكرت القناة العبرية الثانية أن فلسطينيين يحمل أحدهما مسدساً والآخر سكيناً وبلطة دخلا إلى كنيس يهودي في حي "هار نوف" لليهود المتدينين وبدءا بإطلاق النار وطعن المستوطنين المتواجدين في المكان ما تسبب بمقتل 7  في المكان وإصابة 13 بجراح 5 منهم بجراح خطرة و دخل اثنان منهما بحالة "موت سريري . 

يستمد منفذ كل عملية مقاومة قسط شجاعة ممن سبقه، يستفيد من أخطائه ويفكر تحت الشمس دون أن يتمكن أمن الاحتلال من رصد خطته، فليس بمقدورهم الولوج بين الشخص ونفسه وهو ما يشكل عقبة حقيقية تشل عامل التوقع والتنبؤ بل وسياسة "الضربة الاستباقية" التي ينتهجونها منذ عدة سنوات.

الميزة الجديدة لعملية القدس حسب رؤية المحلل السياسي د.عبد الستار قاسم هي درجة الجرأة والتحدي لدى منفذي العملية، فهي حتى الآن تشكل أوج تلك الجرأة لكن قد يأتي مستقبلاً ما هو أجرأ منها.

وتوقع قاسم أن تشكل عملية القدس منعطفاً جديداً لتدفق حالة الحماس لدى الشباب الفلسطيني في الضفة ليثأروا من الاحتلال بعد سلسلة جرائم ارتكبها بحق المدنيين وحملة التهويد والعدوان على القدس والأقصى.

ويشكل "الكنيس اليهودي" في ذهن معظم الشعب الفلسطيني رمزاً للمستوطنين والمتدينين المتشددين، وهو ما وجه منفذي العملية لاختيار هدف بطريقة لم تكن عشوائية، بل حمل رسالة للمستوطنين، وهي رسالة وصلت بوضوح مفادها -حسب تأكيد المحلل قاسم- أن الشعب معبّأ تماماً ضدهم بعد حملة مصادرة الأرض والاستيطان وتدنيس الأقصى.

وأضاف "لا مكالمات هاتفية ولا اجتماعات أو أوامر تنظيمية في هذا النوع من العمليات المقاومة تمسك عبره أجهزة أمن الاحتلال بطرف الخيط وتتبع طريق المنفذين، إنهم أمام حلقات مغلقة من العمل السريّ تزيد في سريتها عن أسلوب الخلايا النائمة بمزيد من التكتم والسرّية"

وتابع قاسم: "إسرائيل" بكافة قدراتها الأمنية لا تتكهن بتلك العمليات ولا تسيطر عليها لأن التخطيط فيها يجري بين الشخص ونفسه، ومخابرات الاحتلال لا تستطيع الدخول بين الإنسان ونفسه لذا تقع هذه العمليات كالصاعقة على رؤوسهم".

دوامة الشك الذي تدور فيه أجهزة الأمن الصهيونية يحفزها للشك في كافة الاتجاهات، وهو ما يشكل حالة أرق كبيرة لدى مؤسسة الأمن حيث يؤكد المحلل العسكري شرقاوي أن استخدام "سلاح ناري وسلاح أبيض" يعكس حالة تناغم في العمل المقاومة وتبادل أدوار.

من جانبه؛ يرى الخبير العسكري العميد يوسف شرقاوي أن "العمليات الفردية" تزعج الاحتلال وهي في هذه المرحلة تشكل حافزاً للشباب الفلسطيني ليردوا على كل عدوان في القدس الذي مرّ بمراحل "قتل وحرق وشنق" الفلسطينيين.

ويضيف: "نجاح عملية القدس رفع منسوب التضحية وستتطور ثقافة الرد والانتقام على كل عدوان، ومستقبلاً ستتطور وستضع حدا لإرهاب الاحتلال، تخطيطها ناجح لأنها تتلافي رقابة أمن الاحتلال، وهو ما يحدث إرباكا".

ويعتبر الخبير الأمني محمود العجرمي عملية القدس بأنها آخر حلقة عقب نتاج تراكمي طويل في الضفة والقدس، وصل فيه الشعب الفلسطيني لقناعة أن عملية التسوية هي وهم، وأن المقاومة هي الابن الشرعي للاحتلال!.

 ويقول الخبير الأمني العجرمي، إن كل بيت فلسطيني أصبح عبوة موقوتة يستحيل على الاحتلال رصدها وقد أثبت منفذو العمليات السابقة وحتى اليوم أنهم قادرون على النفاذ لأهدافهم متجاوزين حلقات الأمن الصهيونية.

وتابع: "يحاول الاحتلال أن يؤكد أن العمليات فردية ردود فعل أمام شعبه، لكني أرى أن شعبنا أصبح يستخدم وسائل متطورة رغم التنسيق الأمني، وقد جربت "إسرائيل" كل ما لديها من قمع وسجن وتعذيب دون فائدة، فنحن أمام انتفاضة وشيكة لا محالة".

واختتم بقوله "أياً كان شكل العملية القادمة، فإن حالة العجز الأمني الصهيوني ستستمر، لأن حالة الاحتكاك بين الفلسطينيين والصهاينة مستمرة ونظرة التعالي اليهودية في إنكار الحقوق الفلسطينية متواصلة، لذا فالأقرب هو تواصل عدوان الاحتلال ومزيد من الفعل المقاوم ولكن ربما بتطور أكثر ومن زاوية عدم التوقع".

عجز مواجهة المقاومة الفرديّة

 بعد أن تباهى الاحتلال في عام 2013 أن عدد قتلى جنوده ومستوطنيه في الضفة قارب على الصفر نتيجة التنسيق الأمني جاء النصف الثاني من عام 2014 عاصفاً بأشكال مختلفة من العمليات التي أخذت في غالبها سمة العمليات الفردية، وكانت القدس والخليل مسرحاً رئيساً للأحداث.

 وكانت عملية خطف وقتل المستوطنين الثلاثة في مفرق عتصيون قرب الخليل الحدث الأبرز في الضفة الغربية لعام 2014، وهي العملية التي أشغلت الرأي العام لثلاثة أسابيع نبش خلالها جيش الاحتلال القبور قبل أن يتمكن من الوصول لجثث مستوطنيه، فيما تدحرجت العملية لاحقا لتكون أحد مسببات العدوان على غزة.

 وقد شكلت عملية خطف المستوطنين وما رافقها من أحداث بؤرة تسخين أفضت لاعتقال مئات من النشطاء والنواب ومداهمة آلاف المنازل وانتهت باغتيال مقاومين اتهمتهما قوات الاحتلال بالوقوف خلف العملية، وهما الشهيدان مروان القواسمي وعامر أبو عيشة.

 وفي زحمة الأحداث؛ جاءت جريمة المستوطنين البشعة باختطاف وحرق الفتى محمد أبو خضير في مدينة القدس المحتلة، وهي الجريمة التي هزت الرأي العام المحلي والدولي، وأعقبها  تدحرج للأحداث أثبت أن سكون الضفة لا يراهن عليه.

 وكانت محاولة اغتيال الحاخام المتطرف يهودا غليك في 29-10-2014 من الشهيد معتز حجازي من حركة الجهاد الإسلامي بإطلاق النار عليه من مسافة صفر في المدينة المقدسة أثناء توجهه لاقتحام المسجد الأقصى مع مجموعة من المستوطنين إحدى العمليات البارزة لهذا العام في إطار الردود على استفزازات المستوطنين في الأقصى.

 وفي 18-11-2014 ترجل فارسان من جبل المبكر هما الشهيدان غسان وعدي أبو جمل ونفذا عملية نوعية هزت الكيان الصهيوني؛ باقتحامها معهدا للحاخامات الصهاينة في مدينة القدس وقتلوا أربعة من كبار الحاخامات الصهاينة وشرطيا صهيونيا وجرحوا العشرات.

تعتبر فصائل المقاومة الفلسطينية إنّ عمليات المقاومة الفردية في الضفة والقدس، رد فعل طبيعي على الجرائم الإسرائيلية المتكررة بحق الشعب الفلسطيني، ومقدساته. كما تعتبر هذه العمليات رسائل تحذيرية للاحتلال قبل انفجار الوضع بسبب هذه الجرائم، والحركة تدعو لاستمرار هذه العمليات البطولية.

أثار تحوّل عمليات المقاومة الفردية لظاهرة مقاومة في القدس والضفة الغربية مؤخراً موجة تحليل واهتمام، حاولت أن تقف على أسبابها وأبعادها، إضافة على تساؤلات عن دور العمل المسلح الصادر عن الفصائل الفلسطينية أو تراجعه في هذه المرحلة.

ولعل الأمر يتطلب أولاً فحصاً لملامحها والسمات المشتركة بينها، إذ على الرغم من أنها نُفّذت بدافع فردي، إلا أن غالبية منفذيها ينحدرون من تنظيمات مقاومة (حماس والجهاد تحديدا)، وسبق أن كانوا معتقلين في سجون الاحتلال، وهو ما يعني أن عملهم لم يكن فورة دم آنية، بل ترتب على قناعة وفهم لأهمية وجدوى العمل المسلح الذي يوقع خسائر مباشرة في صفوف الاحتلال، أي أن حالة التعبئة المعنوية لديهم لم تكن وليدة اللحظة، وكلّ ما في الأمر أن الانتهاكات الصهيونية الأخيرة ساهمت في تفجير طاقتهم المختزنة إلى فعل مباشر، وإلى عمليات يمكن القول إنها ناجحة بدرجة كبيرة لأنها أوقعت خسائر في صفوف جيش الاحتلال ومستوطنيه، ثم ساهمت إلى درجة ما في الحدّ من هجمة المحتل وتغوّله على المسجد الأقصى، رغم عدم انتفاء الخطر عنه.

لا خلاف داخل المؤسّسة الأمنيّة الإسرائيليّة على أنّ فرص إحباط العمليّات الفرديّة تقترب من الصفر، وذلك بخلاف العمليات التي تنفذها تنظيمات وتشكيلات ذات إطار جماعي. يقرّ جهاز المخابرات الداخليّة "الشاباك"، الذي يتولّى بشكل أساسي مواجهة المقاومة الفلسطينيّة، بأنّه يكاد من المستحيل الحصول على معلومات استخباريّة مسبقة، يمكن على أساسها إحباط العمليّات الفرديّة قبل حدوثها، كما يحدث في العمليات التي تنفذها التنظيمات.

ويعتبر الرئيس الأسبق لـ "الشاباك"، آفي ديختر، أنّ "عناصر التنظيمات الفلسطينيّة يحافظون على شبكات اتصال في ما بينهم، وبالتالي ليس بالإمكان رصدهم، علاوة على أنّ طابع العمل الجماعي يزيد من وتيرة الحركة، ما يسهل تعقّبها وتكثيف المراقبة وصولاً إلى التعرّف على نوايا المخططين لتنفيذ عمليات". ويشرح ديختر، في مقابلة مع الإذاعة العبريّة قبل أيام، كيفيّة تنفيذ العمليات الفرديّة بالقول: "أحدهم يمكن أن يستيقظ فجأة ويقرر تنفيذ عمل، من دون أن يطلع حتّى أقرب الناس إليه".

في موازاة ذلك، يحذّر المعلّق العسكري لموقع "وللا"، أمير بوحبوط، من أنّ آلافاً من الشباب الفلسطيني ينتظرون في الطابور لتنفيذ عمليات على شاكلة العملية التي نفذها متروك. ويشير، في مقاله، إلى أنّ الاستخبارات الإسرائيليّة التي تقرّ بعجزها عن مواجهة هذا التحدي، ترى أنّ الحل الوحيد الذي يقلّص من قدرة الفلسطينيين على تنفيذ عمليات ذات طابع فردي يتمثّل في استكمال بناء جدار الفصل العنصري، الذي يفصل الضفّة الغربيّة عن إسرائيل.

وعلى الرغم من إشارة حمزة متروك في اعترافاته، إلى أنّه أقدم على هذه العمليّة انتقاماً للفلسطينيين، الذين قتلوا على أيدي جيش الاحتلال، أثناء الحرب الأخيرة على القطاع واحتجاجاً على الاقتحامات، التي يتعرّض لها المسجد الأقصى، لكنّ بوحبوط يتبنّى الخطاب الدعائي لنخب اليمين الحاكمة، ويدّعي أن هذه العملية جاءت نتاج تحريض المؤسّسات الدينيّة ووسائل الإعلام الفلسطينيّة على العنف ضد اليهود. ويزعم بوحبوط أنّ تفجّر ثورة المعلومات وتعاظم تأثير مواقع التواصل الاجتماعي ساعد فقط في توفير بيئة مناسبة لعمليات مماثلة. ويشير معلّق الشؤون العسكريّة في قناة التلفزة الإسرائيليّة الثانية، روني دانئيل، إلى أنّ ردود الفعل الإسرائيليّة على هذه العمليّات يمكن أن تمثل مسوغاً لتنفيذ عمليات أخرى.

ويصف معلّق الشؤون الاستخباريّة في صحيفة "معاريف"، يوسي ميلمان، العمليات الفرديّة بأنّها تمثل تحدّياً للسلطة الفلسطينيّة، على اعتبار أنّ السلطة معنيّة بحصر المواجهة مع إسرائيل في المحافل الدوليّة، وليس عبر تنفيذ عمليات "عنفيّة". ويوضح ميلمان، في مقال نشره أخيراً، أنّ تدهور الأوضاع الاقتصاديّة وانسداد الأفق السياسي، يُفاقم من حالة الإحباط، التي تزيد الدفاعيّة نحو تنفيذ مثل هذه العمليات. وينقل ميلمان عن مصادر استخباريّة إسرائيليّة، قولها إنّ الواقع السائد في الضفّة الغربيّة، يدفع حتماً نحو تنفيذ عمليات فرديّة، بشكل قد يقلّص إلى حدّ كبير، هامش المناورة المتاح أمام السلطة الفلسطينيّة وإسرائيل.

من ناحية ثانية، تبيّن نتائج دراسة أمريكيّة نُشرت في العدد الأخير من المجلة الأمريكيّة للعلوم السياسيّة، أنّ "أحزاب اليمين تجني مكاسب انتخابية في أعقاب عمليات المقاومة الفلسطينية". وتظهر الدراسة، التي أعدها كلّ من آنا جوتمنسكي من "مركز هرتسليا" وتوماس زيتوف من الجامعة الأمريكية في واشنطن، أن هناك زيادة في تأييد اليمين في المناطق التي تقع في مدى الصواريخ التي تطلقها المقاومة من قطاع غزة.

ويستند الصحافي عكيفا إلدار إلى نتائج هذه الدراسة ليؤكّد أنّ إدراك قوى اليمين لكونها الرابح الوحيد من تدهور الأوضاع الأمنيّة، يدفعها لاستفزاز الفلسطينيين وانتهاك حقوقهم.

مستقبل هذه العمليات

نقلت وسائل الإعلام الصهيونية تخوف قيادة الاحتلال من أن تكون هذه الأعمال الفردية إرهاصًا ببدء انتفاضةٍ جديدةٍ.

كما ذكر "أليكس فيشمان" في مقالته في "يديعوت أحرونوت"، والتي كانت بعنوان "بوادر انتفاضة" أن الانتفاضة الفلسطينية الأولى بدأت بنفس الطريقة من مجموعةٍ من الحوادث غير الواضحة، معزولةٍ عن منظمات "إرهابية"، وظواهر "عنف عفوي". وأضاف: "في البداية واجهنا ظاهرة قيام سائقي سيارات وحافلات نقل فلسطينيين بمحاولات دهس جنود "إسرائيليين"، تلا ذلك عمليات لطعن "إسرائيليين" واختطاف أسلحة من الجنود، ثم رشق الحجارة والزجاجات الحارقة".

ثم أوضح "فيشمان" أن الجهات الصهيونية التي أُخذت على حين غرةٍ مع اندلاع الانتفاضة الأولى اعتبرت وقدَّرت أنها أمام حالةٍ عابرةٍ، معربًا عن أمله أن تكون هذه الجهات "أصبحت اليوم أكثر خبرة وتيقظًا وأقل سذاجةً من الماضي".

وعمليات المقاومة الفردية ليست بديلاً لعمليات حركات المقاومة.. وعلى حركات المقاومة استثمارها وتوظيفها ولم يجُل في خاطر أحدٍ ممن قاموا بهذه العمليات أن تكون يوماً بديلاً لعمليات المقاومة المنظَّمة من قِبل حركات المقاومة وتنظيماتها. كما لا يمكن بحالٍ أن تعتبرها هذه الحركات بديلاً أو حتى منافساً لها في الساحة؛ فحالة "البديل" ومنطق "المنافس" أمران غير واردين في هذا السياق.

فالأمر هنا هو اعتبار "عمليات المقاومة الفردية" عنصراً مكملاً في بناء المقاومة الذي يشيده الفلسطينيون أفرادًا وتنظيمات بدمائهم، وعلى تنظيمات المقاومة الاستفادة من روح المقاومة الذي تبثه هذه العمليات الفردية في نفوس الفلسطينيين، والبناء عليه داخل كوادرها، واستثماره في تنفيذ عمليات أكثر دقة وأكبر تأثيرًا.

ويجب على حركات المقاومة استثمار حالة المقاومة هذه في السعي نحو الالتئام الفلسطيني، وإنهاء حالة الانقسام، وهي الحالة التي قد تكون سببًا رئيسيًّا في عزوف المقاوم المنفرد عن الانضمام إلى أيٍّ من هذه الحركات والتنظيمات.

يُضاف إلى كل ما سبق إمكانية استخدام حركات المقاومة هذه العمليات الفردية كورقة ضغطٍ على الكيان الصهيوني للقبول بصفقة تبادل الأسرى، وفق شروط حركات المقاومة، والإفراج عن الأسرى ذوي الأحكام العالية في مقابل الإفراج عن الجندي الصهيوني الأسير غلعاد شاليط.

لقد أوجدت "عمليات المقاومة الفردية" حالةً جديدةً على الساحتين الفلسطينية والصهيونية، وأسَّست قواعدَ نموذجيةً يمكن البناء عليها وتشييد كيانٍ مقاوِمٍ يقف على أسسٍ صُلبةٍ لا تهتز ولا تتزعزع بإذن الله تعالى لو أحسن الفلسطينيون، أفراداً وتنظيمات، فهمه والتعامل معه.  

اعلى الصفحة